آثارنا في متاحف الغير
علي اليوسف
لم تكن آثار سورية عرضة للسرقة والانتهاك كما حالها في معمعة الحروب الحالية على المنطقة. هذه السرقة ليست وليدة ساعتها بل متواصلة منذ 150 عاماً وإن بوتائر متفاوتة. عندما استولت “داعش والنصرة” وباقي الإرهابيين على أكثر من 300 موقع أثري في سورية، قاموا بتدمير بعضها وألحقوا أضراراً جسيمة بالبعض الآخر، وهي آثار من ماري، ودورا، وأوروبوس، وتدمر، ومن حقبات الكنعانيين والبيزنطيين، إضافة إلى سرقة متحف الرقة ومعرة النعمان، وتدمير جائر للمدن المنسية.
كانت الحرب على سورية وحشية جداً، وأقسى ما كان فيها هو موضوع سرقة الآثار التي تمّت بسرعة خيالية، وكأن هناك شيئاً منظماً لذلك. وحين نقارن بين سورية والعراق نجد أن موضوع السرقة والاتجار بالآثار في العراق بدأ في العام 1991 واستمر حتى سرقة متحف بغداد بين 2003– 2004، لكن عند بدء الحرب على سورية لم تستغرق هذه المدة، لذلك بدأت السرقة في سورية بشكل كبير وممنهج، إضافة إلى تدمير المواقع الأثرية عبر الجرافات أو عبر عمّال مأجورين استقدموا للنبش في تلك المواقع، وهي بدأت في كل المناطق تقريباً، ولم تكن هناك رحمة للمناطق، حتى أن صور الأقمار الصناعية لمدينة أفاميا أظهرت تحولها خلال سنوات الحرب إلى بقعة على سطح القمر. كانت هناك جهات عدة تساهم في سرقة وتدمير هذه الآثار السورية، وأهمها كان الكيان الإسرائيلي، لأنه الوحيد المستفيد من تدمير تلك الآثار أو سرقتها بهدف تزوير وقلب حقائق المنطقة. والشيء الملفت الآخر أيضاً أن المسروقات السورية عُرضت للبيع في لندن واسطنبول وبروكسل، وهذا ما يضع اليونسكو أمام مسؤولياتها تجاه تلك الآثار السورية المسروقة. هناك اتفاقيات دولية مثل اتفاقية لاهاي عام 1954 لحماية الممتلكات الثقافية في فترات النزاع المسلح والتي لها بروتوكول ومراسيم تطبيقية، هذه الاتفاقية تضع علامة الدرع الأزرق على المواقع الأثرية وتمنع الدخول إليها والتعاطي معها، وحتى في حال الحرب الأهلية يمنع الدخول إليها ويعاقب من يخالف وفقاً للقانون الدولي، ولكن القدرة على تطبيقها وعلى معاقبة السارقين في فترات الحروب هو سؤال يطرح نفسه دائماً؟!.
حتى الآن من النادر أن أمسك الأنتربول الدولي بمجرمين ينهبون الآثار ويتاجرون بها، أو قام بمعاقبة البلدان التي اشترت تلك الآثار المسروقة!، لذلك هذا شأن السلطات المحلية، ومن صلاحياتها أن تقوم بتوقيف المتاجرين بالآثار، ومن لا يتمّ توقيفه فمن حق السلطات المحلية المطالبة به. أما بشأن استرداد الآثار فالمطلوب هو وجود أوراق ثبوتية بأن هذه القطعة مسروقة من أرضك، وأن تكون لديك صورة تثبت أن هذه القطعة مسروقة من هذا المتحف برقمها، أو أن تكون القطعة تحمل ختماً أو خرجت من هذا الموقع تحديداً، مثلاً قطعة تدمرية ستكون حتماً من تدمر، كما يجب تحديد موقع القطعة كي تتمكن الدولة من المطالبة بعملية استردادها والطلب من الجهات الدولية كالأنتربول أو غيره من المنظمات الدولية التدخل لوقف عملية البيع.
في دير الزور، مثلاً، قام تنظيم “داعش” بفرض ضريبة تساوي خمس قيمة القطع الأثرية المنهوبة، وفي أماكن أخرى كان عناصر “داعش” يبيعون الآثار المنهوبة مباشرة. وفي هذا الشأن استطاعت الشرطة الدولية الأنتربول أن تكشف الجهات التي تعاملت مع “داعش” في موضوع الآثار، وهي تعلم بالتحديد من تعامل مع “داعش”، لكن السؤال هو هل يستطيعون الكشف عن الأسماء؟.
من الأمور التي ساعدت كثيراً في موضوع وقف الاتجار بالآثار هو أنه عندما تاجرت “داعش” بالآثار واعتُبرت أحد أسباب تمويل الإرهاب، رأت الشرطة الدولية ضرورة محاربتهم، هذا الأمر خلق الوعي لدى الشرطة والجمارك، والكل رفض وأصبح متعاوناً أكثر، والأمر الإيجابي الذي نتج عن هذا الموضوع هو تسليط الضوء عليها أكثر لأنها موّلت الإرهاب.
كما أن هناك قرارات أممية صدرت بعد “داعش” ومن أجل “داعش”، مثلاً القرار
/2253/ عام 2015 الذي يلزم الدول بالإبلاغ عن المواد الثقافية الآتية من العراق وسورية تحديداً والتي تمت مصادرتها. والقرار /2347/ للعام 2017 الذي يحظر الاتجار بالممتلكات الثقافية في مناطق النزاع، لكن هل طُبّق هذان القراران؟ هل هناك آثار صودرت وهي في طريقها إلى بلادها الأصلية الآن؟ ماذا يحصل؟.
إن قرارات الأمم المتحدة لها قوة تنفيذية للدول التي توقع عليها، وهذا ما يميزها عن الاتفاقيات الدولية التي لديها جانب أخلاقي فقط، والدول الموقعة ملزمة بمصادرة القطع الأثرية المسروقة ولا تستطيع غضّ النظر عنها، لكن المتاحف الغربية أخرجت نفسها من اتفاقية اليونسكو لعام 1970، وأنشأت مجموعاتها وسرقت آثار العالم ووضعته في دولها وعواصمها، وهذا هو المنطق الذي اعتمدوه لإنشاء متاحفهم. في العام 1970 أبرمت الدول الغربية الاتفاقية وكانوا واضحين بتسمية أنفسهم بالمتاحف الكبرى، وأنه من غير الوارد بالنسبة إليهم إعادة القطع الأثرية إلى دول المنشأ لأنها بقيت لديهم أكثر من مئة سنة وأصبحت جزءاً من تاريخهم وثقافتهم وشعوبهم. على سبيل المثال، وصل عدد زوار متحف اللوفر في العام الماضي إلى 25 مليون شخص، لكن هم لا يأخذون المعادلة المادية بالاعتبار بل يعتبرون أن اقتناءهم للقطع الأثرية لمدة مئة عام يجعلها جزءاً من ثقافتهم الخاصة.
مسح ذاكرة
لا شك أن هذا السلوك الغربي هو جزء من عملية مسح ذاكرة الشعوب وعملية تدمير هويتها، ودفعها للشعور بعدم الانتماء لهذه الأرض وعدم امتداد أهلها فيها، وأن الغرب وحده من يخلق هذه الذاكرة الجماعية. ما يعني أن هدفهم هو تدمير المجتمعات المحلية وتغيير هويتها. أما دولياً فهي من أجل إبراز صاحب السلطة في هذا الموضوع، وهي عملية تلاعب بثقافات الشعوب وتاريخها، ومن ناحية أخرى تخدم النظرة إلى عدم القدرة على حمايتها والإيحاء بأنهم الأقدر على حمايتها.
وهنا من الضروري القول إن جزءاً واسعاً من الهوية ما يزال قيد الاكتشاف وقيد النهب أيضاً، لأن من يسرق المتاحف ويدمّر المعالم يسعى إلى تدمير الهوية والذاكرة.