“المقابلة التي لم تُبث”
منذ اللحظة الأولى للحرب الدائرة في سورية وعليها كان الإعلام سلاح الدمار الشامل الحقيقي الذي استُخدم ضد الدولة السورية، ليعمل وفق أساليب معروفة ومجرّبة على خطين: الأول التغطية على الوقائع الأصلية التي تشهدها الأرض، والثاني، وهو الأخطر، خلق وقائع بديلة عبر إعادة بناء سرديّة جديدة وموجّهة للأحداث محمّلة بجرعات كاملة من النفاق والتحريض الفاضحين، ثم يتمّ تداول هذه السردية وبثّها بصورة متكرّرة عبر أكثر من وسيلة إعلامية بهدف تكريسها، في عقل المتلقي، كحقائق لا يرقى إليها الشك. وبكلمة أخرى جرت إعادة صياغة كاملة للوعي وبناء قصة مزيفة للأحداث من الألف إلى الياء بهدف خلق ما يسميه عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو: “إدراك وهمي للعالم الحقيقي”، يمكن استخدامه أساساً متيناً لتفعيل المخططات المعدة للفوضى والتخريب بداية، وصولاً إلى السيطرة الكاملة على البلد نهاية.
ولأن هذه الخطة الإعلامية مازالت، بصورة أو بأخرى، على الطاولة، فلم يكن مستغرباً، بالنسبة لنا كسوريين، أن يتزامن منع مجلة نيوزويك الأمريكية – حيث قلب “العالم الحر” – نشر تقرير لأحد محرريها يفضح فيه فبركة موضوع الأسلحة الكيميائية في سورية، مع امتناع قناة “راي نيوز24” الإيطالية عن بث مقابلة أجرتها مع السيد الرئيس بشار الأسد نهاية الشهر الماضي، فالرواية الوطنية السورية لما جرى، ويجري اليوم، لا يجب أن تصل إلى العالم بأي طريقة وبأي ثمن، وذلك كان الهدف الأساس منذ اللحظة الأولى حين أُنزلت القنوات الوطنية عن الأقمار الصناعية، بقرار من “الجامعة العربية”، ودول الاتحاد الأوروبي، التي تجاهلت “كل المبادئ التي يدّعيها الغرب، الذي يُفترض أن تكون الحريات الإعلامية والرأي والرأي الآخر جزءاً أساسياً من قيمه.
ولأن السياسة، والإعلام لبها في عالم اليوم، لا تحرّكها الصدفة، فإن عدم بث المقابلة أمر لا يتعلّق بمشاكل تقنية، كما حاولت القناة التبرير، لكنه يتعلّق بأوامر سياسية، من جهات معروفة هالها التأثير الواضح –خاصة على المتلقي الغربي – لكمّ الحقائق التي أوضحها الرئيس الأسد في مقابلاته الأخيرة مع وسائل إعلام متعددة، ومنها “باري ماتش” الفرنسية، وكشف فيها مسؤولية “حكوماتهم الديمقراطية” ودورها الأسود في رعاية واستثمار الإرهاب، الذي ارتدّ على صنّاعه، وقبلهم على الشعوب الغربية، في شوارع فرنسا وبروكسل وغيرهما من العواصم الأخرى. فكان المنع هو الحلّ الوحيد الذي تفتقت عنه قرائحهم لمداراة جريمتهم هذه، ليفضحوا بذلك كذبة “الحق في الاتصال”، ومسرحية الرأي والرأي الآخر، وغيرها من الجمل والعبارات البرّاقة التي لا يبدو أنها تُطلق إلا لتُغطي على أفعال حقيقية من قبيل: “الحق” في خنق الرأي الآخر ومنعه، و”الحق” في ترويج روايتك وحدك عمّا يحصل، وصولاً إلى “الحق” في الاستعمار الناعم عبر الاستيلاء على العقل والوعي باعتباره أقصر، وأفضل طريق يسمح باستلاب ثروات الشعوب، ومصادرة قرارها واستقلالها، وهي “راغبة” وراضية وشاكرة.
بالمحصلة، خطوة القناة الإيطالية – كما المجلة الأمريكية – تعني أن سرديتهم الكاذبة بدأت تنهار وتتفتت، وأن الحقائق بدأت تصل للمواطن الغربي، وتغيّر في قناعات الرأي العام هناك، وأن هذه المقابلات المتوالية، بجملها ومفرداتها وحقائقها، تصيب صنّاع الإرهاب والتضليل في مقتل، وتفضح جانباً من خططهم وجرائمهم وتوقفهم عراة أمام شعوبهم، التي تعاني اليوم من تبعات استثمارهم للإرهاب ورعايتهم له، والأهم أن “المنع” ساهم في فضح كذبة “الإعلام الحر”، المهني، الموضوعي، إلخ..، وأثبت أنه، من جهة أولى، ليس إلا صوتاً خانعاً لسيده، ومن جهة ثانية، شريك كامل في جرائمه المتتالية التي تُرتكب بحق شعوب العالم بأسره.
أحمد حسن