المقابلة: لماذا كل هذه الخشية ؟!
لن تُمحى من الذاكرة الظروف التي أحاطت بمقابلة سيادة الرئيس بشار الأسد مع التلفزيون الإيطالي Rai news24 يوم 26/11/2019 والتي اتُفِق على أن تُبث في 2/12/2019، لكن التلفزيون الإيطالي امتنع عن بثّها لأسباب غير مفهومة، وبالأحرى: مفهومة. ثم قام التلفزيون العربي السوري ببثّها مساء 9/12/2019 ما سيجعل من البحث في هذه الظروف، ومن خلاصتها، درساً واسع الصدى في الإعلام، وللإعلاميين، ولحرية الرأي والديمقراطية، ولأنماط ووسائل العبث بالرأي العام وبخاصة في الغرب.
وستبقى التساؤلات غزيرة ومتنوعة حول أسباب عدم البث من قبل الإيطاليين، فهل هناك تبعية مطلقة للسياسات الصهيوأطلسية في المنطقة والعالم؟ وهل لهذا التلفزيون أسبقية في ارتكاب هكذا أخطاء؟ وهل هناك تهديد بالحصار والعقوبات ؟؟ وهل.. ؟.
بالمحصلة، لا شك في وجود خشية من نشر الحقائق التي أضاءها سيادة الرئيس أمام الرأي العام ولا سيما في الغرب، وخاصة أن المقابلة باللغة الإنكليزية أولاً، وهي موجّهة إلى الخارج أكثر من الداخل ثانياً، وثالثاً، وهو الأهم، أنها موجزة، دقيقة، محددة بوضوح، تتوافر فيها متطلبات استراتيجية الخطاب الحديث والمعاصر ولا سيما ما يستدعيه هذا الخطاب من وعي نظرية التلقي من حيث: الرسالة – المرسِل – المرسَل إليه.
الغربيون قرّاء ومتابعون، ويهمهم جداً – ولا سيما الأجيال الشابة – ما يحدث في هذه المنطقة من العالم، وهم يرون بأم أعينهم وصول شرر الإرهابيين – الذين دعمتهم بلدانهم – إلى حياتهم ومستقبلهم، ولا شك ستزداد خشيتهم حين يسمعون بلغتهم الأوسع انتشاراً خطاب الأسد إليهم: “… وبالتالي كما تزرع تحصد”، كما أن حجب إدارة Twitter لحساب الرئاسة السورية سيستفزهم ويدفعهم إلى المتابعة والتلقي وإلى البحث في تقنيات الخطاب الشائعة لديهم ومنها (أفق الانتظار / التوقّع)، وكذلك ما يعرف لديهم عن (مسافة التوتر)، وسيتأكدون من أن لا قيمة في مؤسساتهم للحريات والديمقراطية وموضوعية الرأي العام، وإلى فهم أكثر لسياسات الهيمنة وإلى التساؤل: هل الضغط كان على القناة التلفزيونية، أم على إيطاليا الدولة، خاصة أن مثل هذا لم يحدث في مقابلات سابقة للسيد الرئيس مع الإعلام الغربي، وبالتالي سيتأكد للطليان ولغيرهم أن الضغط الأمريكي على إيطاليا تحديداً كان ولايزال مستمراً، فهي في عين الأمريكان ولا تزال تحت وطأة برامج مراقبتهم من حيث الاستهداف وإسقاط الحكومات والتعامل مع المافيات فيها… إلخ من موسوليني إلى برلسكوني.. مروراً بتقدّم اليسار فيها يوماً من الأيام.
لا شك في أن المقابلة متقنة ومقنعة وباعثة على خشية خصوم وطننا وشعبنا وأمتنا، وفيها خطاب الموضوعي والقوي، حيث يصدر الحديث فيها عن لغة المنتصر ومفرداته التي تطمئن شعوب العالم وشعبنا خاصة أن سورية بخير، تتعافى بعد أن صمدت ونجحت، وأن أعداءها يتهاوون في مهاوي الخذلان والهزيمة والفضيحة والخيانة. وهي تؤكد أن مصادر الخشية من بثّها عديدة ومن أهمها الملاحظات الواضحة لتحضيرات بلدان عديدة لتغيير مواقفها تجاه سورية، ولتبنيها وعياً مطابقاً ناجزاً للواقع الواضح الذي لم يعد ممكناً للغرب وذيوله الإسراف في تزييفه.
فلم يعد بإمكان الغرب وعملائه تغييب السرديّة الوطنية للحقائق ولا سيما تلك التي تضمنتها المقابلة وبخاصة أننا: (لا نخوض حرباً طائفية ولا عرقية بل حرباً مع الإرهابيين)، فقال الأسد: “أردت الحديث عن حرب وطنية كهذه” وللحقيقة والتاريخ إنها بكل معنى الكلمة الحرب الوطنية العظمى The Great Patriotic War .
وكذلك الأمر مع توضيح سيادته الفرق بين المسلم والإسلامي فضرب أردوغان إنموذجاً سلبياً، والتأكيد على فشل رهان الغرب على العبث بالدين وبالتربية حيث (نجحت المؤسسة الدينية في الجهود التي بذلتها لمساعدة الناس على فهم الدين الحقيقي)، وهكذا الأمر في ازدواجية المدني والإرهابي وتوضيح ذلك من خلال رد سيادته على رسالة البابا.
… فمع هكذا خطاب تسطع السرديّة الوطنية في الحرب على سورية، تلك السرديّة التي لم يعد ممكناً تشويهها.
إذاً، لا شك في أن الخطاب الذي تضمنته المقابلة كان موجّهاً إلى متلقٍ غربي مختلف طال “أفق انتظاره” وعانى من “مسافة التوتر” بين الرواية والواقع. هذا المتلقي في الشارع الغربي وفي مراكز الأبحاث وفي استراتيجية الخطاب الأدبي والإعلامي يعرف معاني أفق الانتظار / التوقّع Horizon of expectation الذي هو ركن أساسي في نظرية التلقي حيث يثير الخطاب انفعال الجمهور ويدفعه إلى البحث عن توقعات الأحداث والنتائج القادمة ويجعله عاملاً نشيطاً لمتابعة الحدث ومتغيراته، ويكون معه موقف القارىء أساسياً تبعاً للطريقة التي تتم بها قراءة النص عبر التاريخ، وتبعاً لأفق انتظار الجمهور.
كما أن القارىء والمتابع ذاك يعرف أن هكذا خطاب في هكذا مقابلة تتوافر فيه بعث ما يعرف عنده عن مسافة التوتر Tension Distance حيث يخرج المتلقي مع هكذا مسافة باللغة والخطاب والتصورات والمواقف إلى سياق غير مألوف سابقاً لديه، فيراوح بين الانسجام والتشابك والمفارقة، إنها المسافة التي تنطلق من النص إلى القارىء ثم إلى العالم، وإلى التاريخ أيضاً وهنا تتسع مسافة التوتر وتتعدد.. فكانت الخشية من البث والامتناع عنه ملاذاً.
ومع وعي هكذا أفق، ومع هكذا مسافة يسقط استبداد لوبيات الإعلام الغربي بالرأي العام لديه ولدينا، هذا الاستبداد الذي ينسف استقلالية الإعلام وموضوعيته، فيتضح لشبابنا لماذا لن ينجح رهاننا على قدرة وسائل التواصل الاجتماعي في المساعدة على إنجازنا التنمية المادية والبشرية والإنسانية، ولا حتى الأخلاقية، لأن هذه “الوسائل” بالأساس هي وسائل هؤلاء الذين يخشون كثيراً، وليس المقابلة وحدها.
د. عبد اللطيف عمران