عن قصيدة النثر (2/2) محمد راتب الحلاق
قلت ما زال (شعراء) قصيدة النثر يكافحون من أجل الاعتراف بهم، ويحشدون في سبيل ذلك عتاداً نقدياً، يستند بعضه إلى النقد العربي، وإلى بعض الإرهاصات عند نفر من المتصوفة، ويستند أكثره إلى النقد الغربي، خصوصاً الفرنسي، موطن نشوء المصطلح. ومازال الفريق الآخر يساجل هؤلاء مستخدماً نقداً عربياً تراثياً في معظم الحالات، ويتهم خصومه بالمروق والهرطقة. وأزعم بأن الفريقين قد أضاعوا وقتاً ثميناً في معركة وهمية زائفة. فلا بيانات شعراء قصيدة النثر قادرة على انتزاع الاعتراف بهم إن لم ينتجوا نصوصاً ذات نكهة شعرية مختلفة. ولا مماحكات خصومهم قادرة على طمس وجودهم؛ فلم يكسب الشعر الحر الجولة عن طريق البيانات أو التنظير المحض، وإنما عن طريق إنتاج نصوص ذات مواصفات فنية عالية المستوى، تجاوبت مع احتياجات الناس الفنية والاجتماعية… فأحسن المتلقون استقبالها، ووجدوا فيها المتعة التي يهبها الشعر الحقيقي. ولو استطاع شعراء قصيدة النثر أن ينتجوا نصوصاً مهمة فنياً، لربحوا بعض الجولات، لكن مشكلة هؤلاء، إلى الآن على الأقل، أنهم قد بددوا جهودهم في التنظير، متهمين خصومهم بالجمود والتخلف وحراسة المقابر، دون أن يتزامن ذلك مع إنتاج نصوص ذات قيمة فنية، بغض النظر عن نصوص رواد هذا النمط، التي استنفد فيها أصحابها طاقاتهم، ثم سكتوا، لأنهم لم يعودوا قادرين على تجاوزها، أو إنتاج نصوص توازيها على الأقل؛ ولم يستطع سواهم أن يتجاوزها أو يقاربها (قارنوا نصوص الماغوط المبكرة، مثلاً، بنصوصه المتأخرة، ونصوصه بالنصوص التي تنشر هذه الأيام، وستجدون تصديقاً لما أقول) مما أعطى الانطباع لدى بعضهم بأن قصيدة النثر قد قالت كلمتها على لسان بعض الأفراد ومشت في دروب التاريخ ذات الاتجاه الواحد، أما من يقول بأن قصيدة النثر ما زالت في طور التخلّق والتأسيس الفني، ولم تنجز هويتها الخاصة بعد، فإننا نقبل قوله بحذر، نظراً لما فيه من وجاهة منطقية، ولكننا نقول له: إن المخاض قد طال.
وكان من الممكن تجنب كل هذا السجال لو أن كتّاب هذا النمط من القول قد اختاروا اسماً آخر لهذا الجنس الأدبي الجديد والجميل، لأن هذا الاسم (اللغم) يستدعي مباشرة إلى الأذهان ضوابط الشعر وأدواته وانتظاماته كما استقرت في الذائقة عبر الحقب.
ثم إن أشد خصوم قصيدة النثر هم بعض كتابها من المتطفلين على الشعر (وهم الأكثر عدداً)، أعني أصحاب المواهب الرخوة، الذين استوطؤوا حائط الشعر وهم لا يملكون أدنى مقوماته، مما أدى إلى الإساءة للشعر عموماً ولقصيدة النثر خصوصاً، وقد أتاحت وسائل التواصل لهؤلاء فرصة نشر ما تجود به قرائحهم من الغثاء والهراء، مع أن كتابة قصيدة النثر أصعب من كتابة قصائد الأنماط الأخرى، كما يعترف بذلك النقاد والشعراء مما دفع أحدهم إلى القول: لتكتب قصيدة نثر جيدة ينبغي أن تكون شاعراً كبيراً.
بقي أن أقول: إنني ضد التدليس النقدي الذي يمارسه بعضهم حين يضاهون بعض النصوص ذات المستوى الفني الهابط من قصيدة النثر مع نصوص عالية المستوى الفني من الأنماط الشعرية الأخرى (أو العكس)، في حين تقتضي النزاهة أن تتم المضاهاة بين نصوص من ذات المستوى الفني، ليكون الحكم عادلاً. من جهتي فإنني أستمتع بالنص الشعري الجيد بأي نمط كتب، وكم طربت لنصوص من قصيدة النثر حين كتبها الموهوبون.