“فنــــان مـــن العالــــم العائــــم” وقائـــــع هامشـــــية لمرحلـــــة هامــــة
بعد أن صدرت الطبعة العربية من رواية الكاتب البريطاني ذي الأصول اليابانية كازو إيشيجورو تحت عنوان “فنان من العالم الطليق” ترجمة هالة صلاح الدين عن المركز القومي للترجمة بإشراف جابر عصفور عام 2009، عادت مؤخرا المترجمة ذاتها لإصدار ترجمة جديدة معدلة للرواية بعينها تحت عنوان “فنان من العالم العائم”عن دار نشر خليجية ومهرها بخاتم الطبعة العربية الاولى، مع أن الاضافة لم تتعد تعديلا طفيفا في العنوان وحجم الحرف، واضافة الاهداء “الى والديّ”الذي افتتح به الكاتب إيشيجورو الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 2017 نصه وقد أغفلته في الترجمة الاولى.
النص من أهم روايات الكاتب الياباني الذي هاجر مع والده صغيرا الى بريطانيا دون أن يتسنى له معاركة إرهاصات الحياة اليابانية بعد الحرب العالمية الثانية وبداية مخاض تكون الإمبراطورية الحديثة، لكنه لم يستطع تجاهل هذا المخاض الذي حرص على رسم ملامحه فيما بعد بالمعايشة حينا وعبر الزيارات المحدودة والاكتساب المعرفي حينا آخر، لهذا نجد أن موطنه يشغل الحيز الأكبر في جل نصوصه بدءا برواية “منظر شاحب للتلال” وحتى “لاتتركني ابدا”، لكنه في “فنان من العالم العائم “يسعى لإخضاع تلك المرحة لمحاكمة ومراجعة نقدية عبر استحضار شخصيات فنية كان لها تأثيرها في حياة اليابانيين ما قبل الحرب وما بعدها كشخصية الفنان التشكيلي ما سوجي أونو الذي لعب دورا في الحياة السياسية عبر رسوماته وملصقاته المؤثرة.
تقسم الرواية الى أربع فترات تاريخية تمتد بين تشرين الأول 1948،ونيسان وكانون الأول من عام 1949، وتنتهي في حزيران 1950.يبدأ السرد باستهلال وصفي للمكان الذي ستعقد فيه حوارات ونقاشات تلخص الحالة اليابانية من وجهة نظر الكاتب الذي لايخفي فيها خلفيته الغربية التي يرى من خلالها الوضع في بلاده،وهي خلفية تبرز الى حد ما اغتراب الكاتب، أو قلة ارتباطه العضوي والروحي بتلك البقعة الجغرافية، من خلال جنوحه نحو العبث والتنظير في قراءة الأحداث التاريخية ونقلها إلى الورق.أكثر من الغوص عميقا في تبعات تلك الحرب المدمرة والآثار المؤلمة التي خلفتها في نفوس جيل المرحلة، رغم دعوته المستمرة لتجاوز تلك الآثار والانطلاق مجددا لبناء اليابان الجديد”..لاوقت لأحاديث الجبناء لابد لليابان أن تسير قدما..”،”..حان الآن الوقت أن تحتل اليابان مكانتها الشرعية وسط قوى العالم..”.
يسعى الكاتب في هذا النص للغمز باللوم من جانب بعض الفنانين الذين شجعوا الشباب على القتال وخوض المعارك من خلال تحميلهم مسؤولية الضحايا الذين سقطوا فيها”، وبعد انتهاء الحرب، ظن السيد ناجوشي أن اغانيه كانت نوعا من الخطأ، إذ تفكر في كل من لقى حتفه وكل الصبية الذين في سنك يا إشيرو حرموا من آبائهم. فكر في كل الأشياء وظن أن أغانيه ربما كانت غلطة..”. وضمن تلك التحولات الكبيرة يشير الكاتب الى النفوذ الأمريكي الذي تغلغل في الحياة اليابانية السياسية والاجتماعية وارخى بظلاله على الكثير من المفردات الحياتية اليومية “…ديكور الغرف بأسلوب يدل على شيء من الابتذال-المراد منه، بلا مراء، لفت أنظار الزبائن الامريكيين..”
لكن البلاد التي خرجت مدمرة من الحرب راحت تبحث عن قوالب جاهزة في انظمة الحكم والسياسة لتأخذ بيدها نحو النهوض والارتكاز”..فنحن اليابانيين نظهر كالأطفال في هذا المضمار. لم يزل علينا أن نتعلم كيفية النهوض بمسؤولية الديمقراطية”.وهذا ماولد الكثير من الانقسام بين الداعين للتقوقع والاعتماد على الذات وبين من يرى بضرورة الاستفادة من تجارب الآخرين”..ألا يساورك القلق أحيانا أن نكون قد تسرعنا أكثر من اللازم قليلا في المشي في ركاب الأمريكيين..؟. أنت محق تماما ياأبي. أنا متأكد أننا تسرعنا قليلا في بعض الاحيان بيد أن الأمريكيين لديهم عامة الكثير ليعلمونا إياه..”
وفي الحرب يبرز دائما الفوضويون والجشعون،وهو ما اعتبره الكاتب عقبة أساسية في طريقة أية ولادة جديدة تماما كحال ما نشهده في بلادنا اليوم.يقول:”..مقادير الشعب تحت ايدي رجال أعمال جشعين وسياسيين ضعفاء،ومثل هؤلاء الاشخاص سوف يعملون على تنامي الفقر كل يوم ما لم نقترح نحن الجيل الصاعد فعل شيء..”
“فنان من العالم العائم” نص روائي رغم أنه لا يقدم أكثر من أفكار هامشية قياسا بأحداث تلك المرحلة العظيمة، لكنه يخرج بقراءات وأفكار يمكن البناء عليها في مواجهة أزمة ما بعد الحرب لدينا والخروج منها بخيوط يمكن أن ننسج منها دروعا واقيةلأجيالنا.
آصف ابراهيم