ثقافةصحيفة البعث

“كلام يعنيني”.. حيوات تغفو بعين واحدة في قلب كتاب

في مجموعته الشعرية “كلام يَعنيني”، الصادرة عن دار التكوين، يشتغل الشاعر ورجل القانون “عصام التكروري” برهافة حادة المزاج، على دمج عالمه المكتظ بالقوانين والأحكام والتشريعات، بخفة فيما يشغل باله، وبما ينفعل عنه من مشاعر كما لو أنها غيمة، لا تريد البكاء، إن هي استطاعت سبيلا للمطر، مبتعدا وربما متحاشيا العناوين الرنانة، تلك التي تجذب المشتغلين في هذا الفن الشاق، فيحترقون حول لهب وهمهم عما يعتقدونه نتاجا “شعريا”، فالشاعر هنا لا تبهره الجمل الشعرية المركبة، ولا تلك العصية على الشعر نفسه، على اعتبار القاعدة التي تمضي باستخدام اللغة، فقط لنقل الحقائق، وها هو يستخدمها لذلك الغرض في “كلام يعنيني”، لكن بصياغات مباشرة في ما ترمي إليه، والحالة الشعرية فيها كلها مكتملة بذاتها، لا صورة شعرية مبتورة هنا، أو رصف كلام لا معنى له هناك، ذاهبا نحو خيار “اللوحة الشعرية”، كأسلوب لتقديم ما يعتمل في جوانياته، لا كحال شخصي، بل كحال عام، منطلقا من الشخصي نحو ما هو كُلّي، ليشُكل من تلك الجزيئات التي تتوارد في وجدانه، عوالما أرحب، إذ أن الفسحة التي عرفها وخَبِرَ ملمس قماشتها بين ماض من الزمان وآتِ، صارت تضيق أكثر فأكثر، كلما قلبت الأيام التي يعبرها كلون أصيل، روزنامة الحرب ورقاتها، تاركة حكمتها منثورة على درب الجلجلة السورية الطويل، ولهذا، يرتبط منجزه الشعري الأول، ببعض من مناخات القسوة، التي حضرت بكامل قيافتها في الواقع، ذاك الذي يحيا الشاعر يومياته بين حباله المتأرجحة، تارة بغضب تكظمه اللغة، وتارة بحزن عميق، ينجلي عن سياقات شعرية تقف بهدوء على حافة الهاوية، يقول في “حزب الخُضر الحاكم”: “استقامة البلاد من استقامة الأشجار/سيدي السنديان/سامحنا/وقتٌ طويل مرّ/وجبينك الوضاء تسرحه الأعشاب الضارة”، فبين الرمز والدلالة المباشرة، تتدفق من وعي الشاعر، تلك الحالة الشعرية الخاصة، مشغولة بعناية ودراية، وإن كانت قاعدة “الإنتاج يحدد الوعي”، من المقولات المؤثرة، بل والأكيدة في الخبرات الحياتية المكتسبة بفعل المماحكة والتجربة، فلسوف تحضر مفردات خاصة، من طبيعة هذا الإنتاج، ليقوم بتوظيفها بشكل عفوي وتلقائي، بما يريد أن يسكبه في قوالب اللغة الخاصة به، يقول في “فساد”: “بعد رحيلكِ/اقتلعوا أرصفة بردى ثلاث مرات/محو ذاكرة خطانا ثلاث مرات/اليوم بات لدي سبب إضافي/لمحاسبة الحكومة الراحلة”، وهنا نعود لما قلناه عن تداخل الوعي الشعري والفكري، بالوعي القانوني، ذاك الذي يحضر بلا مواربة في القصيدة آنفة الذكر، فالفساد لم ينل فقط من حقوقه كمواطن، بل نال من الركن الحميم الذي يأوي إليه، كلما اشتدت زوابع الزمان، وصار الحنين موئلا لحنين آخر، متباين في الثيمة، ومتجانس في فقه المعنى وحيثيات الرؤية.

المجموعة الشعرية “كلام يعنيني”، والتي جاءت مبوبة بستة فصول، لا تبدل رداءها، بل تترك ما تراكم من غيم وورق شجر وتراب تهيله بقايا أحلام غائمة، على أصابعه، حتى يكاد القارئ يشمّ ذاك الصراخ العالي، الخارج من قصائد المجموعة، وكأنه تحذير بأنين طويل ومتقطع، لا تسعى لأن تُطاول الشهب، بل إن رغبتها بالنسيس حتى الاحتراق والتوهج، تمضي بها نحو اليومي والحار، نحو الفقد وأهوال المنظور والمرئي منه، حول الحياة وحيالها، في ذاك الواضح كمساء، المتواري كَبُعد لا يدريه سواه، وبمختلف تفاصيل الحكاية وما وراءها، لتجيء تلك الفصول الستة، بعناوين لها وقعها الأكيد والخاص في ضمير الشاعر ووجدانه، وكأنها رسائل شاقة، تُرخي على باله جدائلها الفاحمة، تاركة لضوء شمس يشتهي عذب رضابها، أن تتخللها، فلا حلكة تُغيّب قمرا عنّ على خاطره، حتى ومناخات الحرب، تلك التي اشتبكت مفرداتها بالسلاح الأبيض مع خياله، تروح وتجيء أمامه، كمكوك حائك طائش، فيما يطالعه كإنسان أولا من يومياتها الغامقة؛ وتلك الأبواب الستة هي: “قصار الغصص/نهايات غائمة جزئيا/نهايات مشمسة/قلائد لرمادها المغدور/أغان للزمن القادم/خرائب الآدميين”، ومن “نهايات مشمسة” ننتخب بعضا من قصيدة “نورس أبيض في سماء رمادية”: “عندما تنتهي الحرب/سأدعوكِ إلى غرفتي في تلك الظهيرة/تحت سماء رمادية/سأنزع عنك منديل الحرير/بقلب يفيض حنانا/سأمرره على وجهك الذاهب إلى الينابيع/سأحملك بين ذراعي/وعلى أريكة قرب النافذة/سأمددك هامسا بأذنك الغضة/انظري..نورس أبيض في سماء رمادية”، يا له من وعد بسيط بالمعنى المجازي للكلمة، وعد حاكته رغبة الانعتاق من الفضاءات الضيقة، لصيغ التعبير الجاهزة، تلك التي يتهافت عليها الواهمون، بينما يُدركها شاعرنا بكيانه، ممشطا شعرها بأصابع من مرمر، وعلى مسامعها، يترك الوقت يدور كأسطوانة تصدح منها زرقة السماء، وسواقٍ صافية الدلالة، يثرثر بها النبع الجالس بين “درفتي” صدره يسرد الفاكهة.

من قصيدة “كلام يعنيني”، عنوان المجموعة، نورد ما يلي: “وتقولين: حيث يمرُّ فَمُكَ تولد شامة ويرعى غزال/أنتَ المشرقي فمن أين لجسدك كل هذا النبيذ/كم من الصقور تسكن عينيك أيها الغريب/أقول: أنتِ المسافة الغامضة بين ما أرغب بقوله/ومالا ترغبين بسماعه ساعة الرحيل/أنت ما أضعت في السعي إليكِ/وأنت الندم كل الندم/على ما لم اقترفه معك من خطايا”.

تمّام علي بركات