الإعلام المتلفز يقتفي مصير الورقي..!
آصف إبراهيم
منذ سنوات عديدة خلت والإعلام الورقي يطوي صفحات من تاريخه الطويل صحيفة أو مجلة عقب الأخرى. صحف عربية وعالمية عريقة وذات حضور فاعل استسلمت لسطوة التكنولوجيا الإعلامية المتسارعة وتخلت عن عراقتها وتقاليدها وحضورها وعلقت نعوة وفاتها ورقيا، على صفحتها الأولى نتيجة الانحدار الكبير في مستوى المبيعات التي دفعت بها إلى الإفلاس، حتى لم يبق منها سوى تلك الصحف المرهونة لسياسات رجال أعمال وشركات كبرى تسعى من ورائها لتبييض أموال، أو تحقيق مكاسب دعائية معينة تخدم تطلعاتهم السلطوية بعد التخمة المالية التي وصلوا إليها، إلى جانب تلك الصحف الحكومية والحزبية التي مازالت تكابر حفاظا على تلك الرمزية الوجودية والتاريخية التي تمثلها، رغم معرفة القائمين عليها، مسبقا، عدم جدوى استمراريتها كوسيلة تثقيفية توجيهية دعائية فاعلة، في عصر وسائل التواصل الاجتماعي التي استقطبت ليس مريدي الصحف الباحثين عن المعلومة ومتعة القراءة وحسب، بل وحتى جمهور الإعلام المتلفز، فقد أصبحت محطات تلفزيونية كثيرة تشكل عبئا على أصحابها بسبب نفقاتها المالية الباهظة مقابل انخفاض مردودها الإعلاني الذي كان يغطي جانبا من تكاليف برامجها، فالكثير من الشركات المتوسطة والصغيرة باتت تعتمد على الإنترنت والمواقع المتكاثرة على الشبكة للترويج لسلعها بأقل تكلفة وأكثر انتشارا مستغنية عن الإعلانات المتلفزة مرتفعة التكاليف، وهذا ما حدا بعدد من أصحاب المحطات لإعلان نهاية تجربة إعلامية، وأقول تجربة، لأن أكثر التلفزيونات الخاصة هي تجارب تجارية دعائية لرجال أعمال، تفتقر للاحتراف أو الشغف الإعلامي، فقد شهدنا في الآونة الأخيرة إعلان وفاة عدد من المحطات آخرها محطة ldc اللبنانية، لأسباب مالية تخفي خلفها مصيرا شبيها بمصير الإعلام الورقي ذاته.
لا أحد يستطيع تجاهل تراجع مشاهدة البرامج والمسلسلات الدرامية عبر الشاشة الفضية، قياسا بالسنوات التي سبقت ثورة الانترنت الكبيرة واتساع رقعة انتشارها الافقي ، فقد أكدت بعض الإحصاءات في الولايات المتحدة الأمريكية مثلا، أن نسبة مشاهدة الشباب ما بين 18 و24 سنة للبث التلفزيوني انخفضت من 26،28 ساعة أسبوعيا عام 2011 إلى 14،31 ساعة عام 2016. وهذا نموذج يساق على كافة دول العالم، ومهما سعى القائمون على الإعلام الورقي أو المتلفز لمواكبة التقدم التقني والاستفادة من تطور وسائل التواصل الرقمي لخدمة أهداف تعزز استمرارية وجودها وانتشارها، لن يستطيعوا إيقاف هذا المد الجارف للإعلام الفردي غير المؤسساتي، الذي وفره عملاقا “فيسبوك وجوجل” وحدَّ من فاعلية وتأثير المراسل الإعلامي المكبل بسياسات واعتبارات مهنية عديدة، لصالح حقيقة “كل إنسان إعلامي ومراسل من موقعه” فالجندي الذي يلتقط “سيلفي” مع رفاقه على الجبهة هو إعلامي ومراسل متَابعٌ أكثر من المحطات الكبرى، ورجل الإطفاء الذي يوثق وجوده في قلب الكارثة أكثر مصداقية وجذبا للمتلقي من مراسلي وكالات الأنباء، والعامل في المعمل أو السدود المائية مراسل فاعل أكثر من مراسلي الصحف. لقد بات الإعلام واقعا مفتوحا غير مؤطر باعتبارات أو سياسات مربكة لوجوده ضمن ماراثون، الخاسر فيه يتنحى جانبا، وقد حل مكان الإعلام المقونن والمنظم، وهو ينبئ بانقلاب جذري في المفاهيم والأساليب الإعلامية المعهودة التي ستلقى مصيرا دراماتيكيا متسارعا يطوي حقبة بكل مقوماتها، وأهدافها، فمن يتابع عدد قراء الصحف عبر مواقعها الالكترونية يكتشف حقيقة الواقع المتهالك لصحف كانت يوما ما ذات حضور جماهيري قوي، ويؤكد تلازم وجود الرقمي مع الورقي وصعوبة حياة أحدهما بمعزل عن الآخر.
المصير بات محتوما ولن يستطيع أحد حرف القطار عن السكة التي تسير نحو محطة مجهولة العنوان والمسافة. الإعلام الآن محكوم بما ستقدمه التكنولوجيا والعلوم من جديد. هو مصير مفتوح على كل الاحتمالات الأكثر جلاء بينها هو أن الورقي والتقليدي المتلفز سيصبحان ذكريات من الزمن الجميل.