الغرامات ليست بديلاً عن الإجراء الاقتصادي الحبس والمصادرة والغرامات لم تفلح بلجم الأسواق ..والبضاعة ظلت (لا ترد ولا تستبدل..!) الأسواق محكومة عالمياً بالعرض والطلب والمنافسة شبه العادلة.. أما الرقابة التموينية فباتت من الماضي
لا تغير حقيقياً وجوهرياً في المشهد العام للأسواق، فطوال عقود خلت، نتبادل العناوين.. التحذيرات.. الشكوك نفسها. المستهلك يشكو بائعاً يغالي بالأسعار، ويضرب بالقوانين والأنظمة عرض الحائط.. حججه، كما أدواته ومشاجب تعليق أسعاره الزائدة، دائماً متوافرة وجاهزة، ليس أقلها.. سعر الصرف، التوريد، نقص البضاعة، اختلاف الجودة، الإيجارات والأجور، والقائمة لا تكاد تنتهي..
جهات الرقابة والإشراف على الأسواق، وبصرف النظر عن مسمياتها وأدوارها، لم تحقق الكثير من النجاحات، بل غالباً ما تتعامل الأسواق مع القرارات واللوائح الصادرة عن هذه الجهات على طريقة الفرمان العثماني (يكفي أن تسمعه، أما التطبيق فلا.. )، ليس هذا وحسب، بل إنها ما تكاد تنظم مخالفة بحق أحد الباعة، حتى يتضاعف عدد المخالفين، الذين يبتكرون طرقاً ووسائل جديدة للغش والتحايل، وهكذا بقدر ما يحصن صاحب الصندوق القفل، بقدر ما يبتكر اللص مهارات وتقنيات كسره!
وحده المستهلك يقع ضحية كل هذا الحراك العجائبي الفريد، هو يسمع منا- نحن الإعلاميين وصناع القرار الاقتصادي- شيئاً عن (فردوس الأسواق)، ثم لا يجد سوى نار الأسعار التي تكوي القلوب قبل الجيوب، وعندما يبدي بعض التذمر مدللاً بما تنشره وتبثه وسائل الإعلام، قد يتطاول بعض الباعة بالرد: اذهب واشترِ من التلفزيون أو الصحيفة أو.. !!
لا تلقى آذاناً مصغية
درجت وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، ومن قبلها وزارة التموين، على إصدار قوائم للأسعار الأساسية، تحدد بموجبها الحد الأقصى للسعر، الذي يعني تجاوزه دخول البائع منطقة المخالفة، التي تستوجب ما تستوجب من عقوبات بموجب مواد القانون 14 لعام 2015، لكن مع الأسف لا تلقى مثل هذه القوائم آذاناً مصغية من الباعة، فجرت العادة ألا يلتزم بها أحد، فمثلاً سُعّر الكغ من السكر مؤخراً بـ 350 ليرة سورية، وبيع في الأسواق بـ 400 ليرة، وليتر زيت دوار الشمس بـ 950 ليرة، وبيع بـ 1050، والشيء نفسه بالنسبة للرز والسمن والشاي، والقائمة تطول..
لا ترد ولا تستبدل..!
عدم لمس المستهلك لأثر ونتائج التعاميم والقرارات الصادرة عن الجهات الرقابية، دليل آخر على أن الأسواق لا تطرب لمثل هذا العزف، فالوزارة أصدرت بداية الشهر الجاري، القرار 3351، الذي ألزم الباعة والمنتجين بتبديل السلع خلال أسبوع من شرائها، أو إعادة قيمتها للمشتري، حال اكتشاف عيب فيها، كما ألزم المنتجين والمستوردين بشروط الضمان والكفالة للمنتجات، التي تحتاج إلى مثل هذه الكفالة، ولاسيما الأجهزة الكهربائية والمنزلية والإلكترونية وقطع الغيار وغيرها..، والأهم أن القرار حذر هؤلاء من تعليق عبارة (السلعة التي تباع لا ترد ولا تستبدل) في محالهم ومعارضهم..
مع الأسف، ما زالت مثل هذه العبارة تعلق، وإن لم تعلق فإن مضمونها ممارس على أية حال، وهنا من الخطأ وضع السلع جميعاً في سلة واحدة، فإذا كان بعض الباعة يرد سلعاً كالملابس والجلديات مثلاً، فإن رد الأجهزة الكهربائية والإلكترونية، أمر غير ممكن غالباً؛ فالبائع أبرأ ذمته من (دم السلعة) سلفاً، عندما تلا على مسامع المستهلك.. (هذه غير مضمونة).. (أنا بايعك قطعة على بردى)؛ ما يحرمه من حق إعادتها، فلدى سؤالنا عن الضمانة الممنوحة على بطاريات السيارات مثلاً، تبين أن أغلب المحال لا تعطي سوى ضمانة (على التشغيل)، فيما يعطي بعضها أسبوعاً أو أسبوعين، علماً بأن سعرها قفز خلال أزمة سعر الصرف الأخيرة لبطارية سعة 55 أمبير، منشأ كوري، دارة مغلقة، من حوالى 25 ألف ليرة سورية إلى 40 ألفاً..!
نحو دور أهلي فاعل
يدعو الباحث في الشأن الاقتصادي وقضايا المستهلك الدكتور أدهم شقير إلى إعادة النظر بالآليات والقواعد التي تتبعها الجهات الرقابية، بحيث تزيد تعاونها مع المجتمع الأهلي، مع قناعتها التامة بجدوى هذا التعاون؛ لأن من يريد ضبط الأسواق عليه أن يتعاون مع الجهات والأطراف جميعاً، لإجبار المستغلين والمحتكرين على التقيد بالقوانين، وعدم التطاول على قوت الناس.
ويؤكد شقير أن عمليات ضبط الأسواق لم تثبت جدواها حتى الساعة؛ لذا لا بد من البحث عن نقاط الضعف والقصور، ومعالجتها بالشكل السليم، فالمستهلك فقد الثقة بالأجهزة الرقابية، على اختلاف مسمياتها وأدوارها، كما فقد ثقافة الشكوى والتطوع، وهكذا فإن السياسات الاقتصادية يجب أن تبنى على منع الاحتكار، وتشجيع المنافسة والإنتاج، وتخفيض سعر الصرف، وهنا يأتي دور التعاون المثمر بين الجهات الحكومية والأهلية وغرف التجارة والصناعة، وكل من له علاقة بالأسواق.
إلغاء الأسعار الإدارية
ما تشهده الأسواق من فلتان في الأسعار يجعل منظومة الرقابة والتسعير بمجملها محل نقاش وإعادة هيكلة من جديد، ويشير عضو جمعية العلوم الاقتصادية والخبير المعروف الدكتور حسين القاضي إلى أن تبني اقتصاد السوق يمثل ضرورة لا بد منها، وهذا يقتضي توافر البيئة المناسبة لذلك، ومنها إلغاء الأسعار الإدارية، أي ترك الأسعار ليحددها العرض والطلب والمنافسة العادلة، وبالتالي إلغاء الرقابة التموينية، إلا في الحدود التي لا تتوافر فيها السلع والخدمات بكثرة، فالرقابة غير قادة على توفير السلع المفقودة، أو إجبار الباعة على البيع بخسارة؛ ما يتطلب وضع سياسة نقدية تعيد النظر بأسعار الفائدة وتشجع الادخار.
المستقبل لها
علينا أن نقر بأن دوراً مستقبلياً متنامياً ينتظر جمعيات حماية المستهلك، فالدور الحكومي الرقابي والإشرافي على الأسواق حول العالم، أخذ بالانكفاء والتراجع لصالح هذه الجمعيات التي باتت أذرعها أطول، فهناك في دولة مثل البرازيل نحو 60 جمعية فاعلة، و25 أخرى في الهند، وتوجد هيئة باسم (مديرية شؤون المستهلكين) في كل ولاية أميركية، وتنظم مديرية كاليفورنيا 2.3 مليون عامل مهني ينتمون إلى 230 مهنة، عبر 40 وحدة تابعة لها، وتوجد في كل الدول العربية تقريباً جمعيات أهلية مؤثرة.
وتحول الاتحاد الدولي لحماية المستهلك، عام 1960، إلى المنظمة الدولية للمستهلك (CI)، مقرها لندن، وترتبط بعلاقات تعاون مع نحو 170 دولة، ومن أبرز أهدافها.. دعم إنشاء جمعيات حماية المستهلكين، العمل باسم هؤلاء لتمكينهم من حقهم في التغذية وماء الشرب والخدمات، تطوير التعاون الدولي في التحليل وتبادل الخبرات، نشر المعلومات والبيانات ذات الصلة، وغيرها.. علماً بأن المنظمة تعرف المستهلك بأنه شخص يحصل على سلع وخدمات للاستخدام المباشر، وليس بقصد إعادة بيعها أو استخدامها في الإنتاج والتصنيع.
أحمد العمار