الموقف الجديد للإدارة الأمريكية من الاستيطان
ريا خوري
لم تتوقف الإدارات الأمريكية المتعاقبة عن دعم الكيان الصهيوني مالياً وسياسياً وعسكرياً ولوجستياً منذ إنشاء ذلك الكيان المصطنع، وكان آخر ذلك الموقف الأمريكي من الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة. فقد أعلن وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو أنَّ الإدارة الأمريكية لم تعد ترى أنَّ المستوطنات الصهيونية في الأراضي الفلسطينية المحتلة تخالف القانون الدولي. هذا التصريح تصدّر عناوين الصحف حول العالم في الفترة القليلة الماضية، وهو تأكيد على أنَّ الولايات المتحدة الأمريكية قد غيَّرت من موقفها. فقد تضمن تصريح بومبيو توضيحاً قال فيه: إنّ “الجدل الدائر حول مَن على صواب ومَن على خطأ بشأن المستوطنات وطبقاً لقواعد القانون الدولي، لن يجلب السلام أبداً”. فقد كان الكيان الصهيوني يقف وحده في الدفاع عن شرعية المستوطنات قبل أن تتدخل الولايات المتحدة وتسانده. إنَّ هذا التصريح هو انتهاك صارخ للقوانين الدولية واستفزاز كامل للكرامة العربية، خاصة وأنَّ هناك إجماعاً على عدم شرعية المستوطنات وفق القانون الدولي، فقد نصّت المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة على أنَّ سلطة الاحتلال الصهيوني لا يحق لها أو لا يجوز لها ترحيل أو نقل جزء من سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها. هذه المادة المهمة جداً من القانون الإنساني الدولي تُفهم عالمياً على: “أنه يحظر إقامة المستوطنات الإسرائيلية في أي جزء من الأراضي الفلسطينية المحتلة”.
أما مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة فقد تبنّى في كانون الأول من العام 2016 القرار رقم (2334)، واعتبر بتصويت (14ــ0) -حيث امتنعت الولايات المتحدة الأمريكية عن التصويت- أن المستوطنات ليس لها أي شرعية قانونية. وأشار القرار إلى أن المستوطنات تشكّل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي وعقبة رئيسية أمام تحقيق حلّ الدولتين، وإقامة سلام عادل ودائم وشامل في المنطقة. وهو عكس ما صرَّح به وزير الخارجية الأمريكي بومبيو. ولو كان الكيان الصهيوني يمتثل للقانون الدولي، لكان قد أوقف النشاط الاستيطاني وأزال ما قام ببنائه في السنوات التي تلت حرب 1967. فبدلاً من ذلك، واصل الكيان الصهيوني مصادرة الأراضي وبناء المستوطنات بوتيرة متسارعة، معززاً بذلك المنطق الأعوج القائل إن “على الإسرائيليين العيش في أي مكان يريدونه في فلسطين”. إنَّ الكيان الصهيوني لا يرى حتى أن مناطق المستوطنات في القدس والضفة الغربية (مناطق محتلة) بالمعنى القانوني، لكنه يعتبرها جزءاً لا يتجزأ من (الأرض الموعودة).
وهنا أيضاً لا ننسى أنَّ محكمة العدل الدولية قد أظهرت درجة غير عادية من الوحدة والاتفاق، عندما أكَّدت بقوة في عام 2004 على عدم مشروعية بناء المستوطنات الصهيونية على الأرض المحتلة، وذلك بقرار صادر بأغلبية (14 صوتاً مقابل 1). إنَّ إعلان وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، قد جسَّد هذا التغيير الجوهري في الموقف الرسمي الأمريكي والذي يعتبر أنَّ الأراضي الفلسطينية المحتلة ليست كذلك، وأنها (أرض متنازع عليها). هذا الإعلان ينسف ما تبقى من بقايا الموقف الأمريكي بشأن حلّ الدولتين الذي تراه الأمم المتحدة وجميع دول العالم الحل السلمي الوحيد الممكن تحقيقه. وهنا نستذكر الأمر الأكثر أهمية، وهو تبادل رسائل بين الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش ورئيس وزراء الكيان الصهيوني الأسبق أرييل شارون في عام 2004، واتفقا فيها على أنَّ أي اتفاق سلام قابل للتطبيق مع الفلسطينيين لابدَّ أن يدمج الكتل الاستيطانية على طول الحدود مع الكيان الصهيوني، واتباع سياسة تبادل الأراضي والسكان.
مرة أخرى، كان هذا الاتفاق الجانبي من دون أسس قانونية، لكنه كان مؤشراً على ما سيطالب به الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية في مفاوضات السلام المستقبلية.
لقد كان من الطبيعي أن يقف الفلسطينيون والعرب وقفة صارمة للردّ على الإعلان الأمريكي المتحيّز للرواية الأشد يمينية في الكيان الصهيوني. تجلّى ذلك في المحافل الدولية بأنَّ إعلان وزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو باطل ولاغٍ وليس له أثر قانوني، وأنه مخالفة واضحة وصريحة لميثاق وقرارات الأمم المتحدة.
من الواضح تماماً أنَّ إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تعتمد منهج فرض الأمر الواقع على الأرض، وتعمل بكل ما تملك من إمكانيات لتغيير صورة التعامل الدولي مع القضية الفلسطينية عبر إلغاء الالتزامات الدولية تجاهها. لكن هذا المنهج يصطدم بتحدٍ كبير. فهي من جهة أولى، وكما هو واضح في الجمعية العامة للأمم المتحدة، تعمل على تقويض وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا”، ووجدت نفسها منعزلة مع الكيان الصهيوني وحدهما في مواجهة 170 دولة كانت رافضة لذلك الأمر. كما أنَّ محاولاتها المتكررة لإجبار دول العالم على الاعتراف بالمستوطنات وبالرؤية الأمريكية الجديدة من الاعتراف بالقدس كعاصمة للكيان الصهيوني البغيض، إلى رفض مبدأ ترسيم حدود الأراضي الفلسطينية التي احتلت في العام 1967 وحل الدولتين، كل هذا لاقى فشلاً ذريعاً حتى داخل الولايات المتحدة نفسها وداخل بعض إداراتها، وما توقيع أكثر من 170 عضو كونغرس أمريكي على مذكرة رفض هذه السياسة الرعناء إلا أحد عناوين هذا الفشل الذريع.
من جهة ثانية كان قرار محكمة العدل الأوروبية بشأن وجوب اعتبار منتجات المستوطنات في الضفة الغربية، وتمييزها عن منتجات الكيان الصهيوني، إشارة قوية أخرى على رفض المنطق الأمريكي الأرعن المستند أصلاً إلى منهج فرض الوقائع داخل الكيان الصهيوني. فقد أقرَّ مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، وقبل نحو أربعين عاماً، القرار رقم 465، الذي طالب جميع أعضاء الأمم المتحدة بعدم تقديم أية مساعدة للكيان الصهيوني لتُستخدم على وجه الخصوص فيما يتعلق بمستوطنات الأراضي الفلسطينية المحتلة، وكل من لا يمتثل لوقف التبادل التجاري والاستثمار في المستوطنات الإسرائيلية، هو في الحقيقة يمنحهم الأوكسجين الاقتصادي للاستمرار في النمو.
من هنا كان لا بُدَّ من الإشارة بشكل خاص إلى ما قامت به المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية بفتح تحقيق موسّع في جريمة الاستيطان المتكاملة الأركان وفقاً للشرعية الدولية وميثاق روما، ودعوة المفوض السامي لحقوق الإنسان إلى الإسراع في إصدار قاعدة البيانات للمصانع والشركات التي تعمل في المستوطنات الصهيونية، والدعوة لمقاطعة أي مؤسّسة أو شركة أو مصنع يعمل في المستوطنات الصهيونية، ومقاطعة بضائع المستوطنات. هذا الأمر وما يتضمنه يؤكد أنَّ مثل هذا الموقف يعيد من جديد، من وجهة النظر اليمينية الأمريكية والصهيونية المتطرفة، الوضع إلى منطلقاته الرئيسية. فما حاولت حكومات الكيان الصهيوني المتعاقبة وإدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تكريسه من تقبّل العرب، أو بعضهم، للواقع المفروض عليهم قسراً والتباهي بذلك، ينقلب رأساً على عقب.