“ديوك الغريب” التوازي بين الوجدانيات والسياسة والحب
“هي الكلمات تجننني
فحيناً تعلمني الطيران البهيج
وحيناً تعذبني في زنازينها الكلمات”
الكلمات إحدى القصائد التي أخذت مكانها في صفحات ديوان ديوك الغريب وفي قلوب عشاق الشعر، قرأها الشاعر محمد كنايسي في الأمسية الشعرية النقدية التي أقيمت في المركز الثقافي العربي في الميدان، بمشاركة د. عبد الله الشاهر بالإضاءة النقدية. واستهلها مدير المركز جمال الزعبي بالتعريف بالشاعر والحديث عن سمات شعره الوجداني التأملي وغربة الشاعر الطويلة، والأسلوب العاطفي الذي شكّل نصه الشعري بالورود والأحلام حيناً، والحزن حيناً، ليخلص إلى أن قصائده تقترب من حقيقة الحياة وتغيّرات الزمن.
قلق الانتظار
ورأى د. عبد الله الشاهر في الإضاءة النقدية التي قدمها بأنه على الرغم من جماليات صياحات ديوك الغريب، إلا أنها أيقظت الحنين إلى فجر يحلم به الشاعر فرغم غربته بقي مصراً على الحياة التي تحتمل الحلم والطموح والحب، فديوك الروح لم تشخ بعد مازالت في ألقها وبقي في قلق الانتظار”فلا فجر لأعينها يلوح”.
وحلل د. الشاهر صورة الغلاف التي تمثل حالة التأثير والانجذاب العفوي فالعنوان مكتمل السواد يتوسطه الديك بألوان زاهية، لكنه يتجه برأسه إلى الخلف مع تباشير ضياء في اللوحة، ليصل إلى العنوان الذي يقترب من مضامين القصائد بل يتطابقان، ليشعرنا بقلق الوجود والاغتراب الداخلي وهواجس اللااستقرار.
ومن العنوان إلى الموضوعات التي كانت مؤشراً على الرؤية الشاملة والخوض بتفاصيل الحياة، ليصف الديوان بأنه عميق بأفكاره موشوري بإحاطته فاستقرأ د. الشاهر عناوين رئيسة توقف عندها مبتدئاً “بالغربة والاغتراب” فالغربة بمعناها الدلالي الابتعاد عن المكان، بينما الاغتراب يعني غربة الروح وإن عاش في موطنه الأصلي، والاغتراب يحدث في الحالتين فيقول:
جردوني من حقولي وسماواتي وزهري
من عصافيري وغيماتي وأسماكي ونهري
من شجيراتي وورداتي وأنسامي وعطري
ففي هذه القصيدة يجمع الشاعر بين الغربة المكانية والبيئية “سماوات– عصافير- أسماك- فراشات..”وبين الاغتراب الداخلي النفسي “أنسام– عطر- مزمار-فالشاعر لا يملك إلا مرارات التذكر التي وصلت إلى حالة القهر.
ومن الغربة إلى القلق الذي لم يكن مؤقتاً وإنما حالة دائمة:
ديوك الروح من قلق تصيح
فلا فجر لأعينها يلوح
ولا طير يزقزق فوق غصن
ولا ورد يبرعم أو يفوح
ويجد د. الشاهر أن هذه القصيدة تمثل قمة السوداوية والتشاؤمية، ليصل إلى أن الشاعر جارَ على نفسه وجاء شعره بهذه البكائية، وقد يكون مبعث ذلك إلى التنازع الداخلي الذي يعيشه الشاعر كما يقول:
وفي داخلي اثنان يصطرعان
إلا أن الشاعر يكشف أوراقه بالتصريح بحالة الضيق:
ضاق كلي ببعضي
ضاق بعضي بكلي
ضاق عقلي بجسمي
ورغم القلق استشف د. الشاهر نزعة الحلم والطموح ليرسم أملاً بقوله:
رأيت في المنام
أنني أطير
وأهجر الشقاء
وهذا الحلم دعاه إلى الخروج عن المألوف والشك بكل شيء كرد فعل لما عانى منه:
وإذا كان اليقين وليد همّ
فخير منه شك لايزول
وهذه تمثل حالة البعد الفلسفي واستكشاف كل ما هو جديد في حياتنا العامة والخاصة.
المعرفة الكونية
مما قاده إلى التوق بالمعرفة الكونية، إذ يريد الشاعر أن يجرب كل شيء في هذه الحياة القصيرة بتساؤلاته:
وكيف تحاول معرفة
ولن تعرف الوقت
ما لم يفت
ليضعنا د. الشاهر إزاء حقيقة إن الشاعر يرى نقصاناً في المعرفة لذلك يتوق إلى معرفة كلية شاملة عارفة لا معرفة قاصرة:
ما بين عقل لايجاوز حده
وقلب على كل الحدود يثور
فالشاعر يعرف أن العقل مسقوف وهذا لايشفي نهمه المعرفي، وهذه الحيرة التي لاتنتهي قادته إلى الزهد في الدنيا:
ولو كانت الدنيا من الخير كلها
وآخرها موت عزفت عن الخير
فكيف وسيف الشر فيها مسلّط
حقيقتها شرّ يقود إلى القبر
ليتساءل الشاهر”أتراه يطلب الخلود”.
وفي منحى آخر تطرق د. الشاهر إلى السياسة في شعره، إذ أدان وخون وشجب من تحليل الواقع الذي يعيشه وطنه تونس:
وحين تصير السياسة فنّ الفساد
فلا غرو أن تفعلوا ما فعلتم
ليقفل القصيدة بقوله:
فتونس لن تسكت اليوم عنكم
ويهاجم الإرهابيين :
خسئتم فتونس لن تنحني
لإرهابكم أيها القتلة
فيعوّل الشاعر على الشعب ويخاطبه رغم كل المآسي لأنه هو الأصل والباقي زائل:
ويا شعباً تلاحقك المآسي
كأنك قد أقمت بها إقامة
ليكرر دعوته للشعب بالدفاع عن الوطن:
فلا تيأس فلا أمل سواك
لتونس في النجاة ولا سلامة
ومن الإرهاب في تونس إلى الإرهاب في سورية ليمتد إلى خيانة الحكام العرب:
“عجبتُ لمن يدعي خدمة الحرمين
وكفه ممدودة لليهود”
الحبّ الحسيّ
ومن السياسة إلى فضاءات الحب ويرى د. الشاهر أن الحب في قصائد كنايسي تنم عن الحب الحسيّ، حب الحسن والتذوق والوصال الذي ألهب مشاعر الشاعر:
ولم أختر سوى عينيك قصرا
ولم أختر سوى نهديك قبرا
وقبل أن يصل إلى هذه الميتة المشتهاة يطلب القتل الذي يحييه:
ذئاب حبك تعوي في شراييني
والحب يقتلني والقتل يحييني
ليصل إلى مرحلة صعبة في الحب الذي وصفه الشاهر” بالمازوشي”
لا يكتب الشعر إلا بالسكاكين
لهنّ شعري ومن لحمي أقطعه
ليعود إلى التساؤل:
هذا الدواء ولكن من يداويني
وفي الدراسة الفنية ركز الشاهر على اعتماد الشاعر على الشعر العمودي وعلى موسيقا تتموسق الأفكار وتفيض عواطف وعلاقات، أما عن الصورة الشعرية فتتزاحم الصور بالنص الشعري، إذ استطاع رسم صوره بمفردات تظهر قدرته وموهبته، وكثرة الصور أوحت بخصب خياله. وتوقف عند الكوميديا وروح السخرية الموجودة بالقصيدة، ليصل إلى مسألة التكرار في شعره، الذي وظّفه بدقة للفت انتباه القارئ وإقناعه بفكرته، فعلى سبيل المثال كرر مفردة مطر خمساً وثلاثين مرة بالقصيدة.
وعن الصورة العاطفية فهي أقرب إلى الحالة الحسية علاقة جسدية وعبّر عن ذلك بمفردات عدة، منها” النهد- الثغر- السرير…”
أما اللغة الشعرية فتمحورت بين لغة عالية المستوى في مواضع ولغة مباشرة حيناً، واعتمد على الإيقاع الخارجي للموسيقا وموازاتها بالصورة الشعرية واشتغل على بحور ذات جرس إيقاعي وجذاب توصل بالمتلقي إلى حالة الانسجام.
والتساؤل الذي وجهه الشاهر لكنايسي هو عدم عنونة القصائد، فالعنوان خلاصة القصيدة، ليصل في نهاية المطاف إلى أن الديوان حفل بقصائد هامة طالت الحياة السياسية والحياتية والعاطفية.
فعقب الشاعر كنايسي بأن القصائد أشبه باليوميات وبتصوير حدث معين، فلذلك لم يعنوّنها.
والفصل الأخير من الأمسية عاد إلى الشاعر كنايسي الذي قرأ قصائد عدة ذات النزعة الصوفية، وأخرى استحضر فيها ذكريات الطفولة وتوقف عند التغني بدمشق وذكريات القيروان.
ويبقى الربيع رغم الشتاء يزيح عتمة القلب:
أخيراً سيرحل هذا الصقيع
فها قد أتيت بسيل من القبلات
لتشحن كل الزهور
وكل القلوب.
ملده شويكاني