خارج التصريحات غير الرسمية!؟
د. نهلة عيسى
بعد تخطي لزوم ما لا يلزم، وخارج كل التصريحات الرسمية وغير الرسمية لسيادتي البائسة!! وكناطقة رسمية عن دفتر يومياتي: أنا من جيل مسكين.. محروق، ولد بعد أن سكنت كل القضايا العربية، بما فيها القضية الفلسطينية، أدراج المنظمات الدولية، ودخلت متاهات اللغة، حيث الفارق كبير بين “من أراضٍ” وبين “من الأراضي”، ودار الزمان، فمحا غبار الصحارى الألف واللام، وتآكلت الراء، وباقي الحروف علكتها الأفواه المسنة، وداهمت الزلازل الرصيف العتيق من المحيط إلى الخليج، فمزقت حتى “أراضٍ” من الوريد إلى الوريد، وامتطت “أوسلو وشقيقاتها”، شعار “القدس عاصمة الدولة الفلسطينية”، خشبة خلاص من عار وأد شعار “فلسطين من البحر إلى النهر”، فملأت البحر القواعد العسكرية الأمريكية، وزين الرصيف العربي المتهالك بورود “الربيع العربي” الاصطناعية، وباتت السراويل الداخلية لمعظم الحكام العرب.. صناعة إسرائيلية!؟.
أنا من جيل رُبي على تقبيل أيادي كل من ينادي بـ”فلسطين والوحدة العربية”، فصارت الأيادي وثناً، وتم تحنيط فلسطين والوحدة العربية، وتحوّلتا إلى “جرن” كلامي للاستحمام من الهوان فوق بلاط آذان الشعوب العربية، غير مسموح فيه إعادة التصويت على من يتحدثون باسم القضية، فهم أبديون، مكرسون، دخلوا التاريخ من باب فلسطين، وأدخلوا فلسطين زواريب مجلس الأمن، ومجلس الجامعة العربية، ومؤتمر الوحدة الإسلامية، وكل مجالس الندب والعزاء في الصحف والتلفزيونات العربية!.
أنا من جيل رُبي على الغضب من “وعد بلفور وسايكس بيكو”، ثم أُجبر على الاحتفال بالطبول بأعياد استقلال هي نتاج “سايكس بيكو”، جيل باعه من باعوا الأرض، الخطب الحماسية، والوعود الخلبية، والمرارة، وحرقة مالحة بالذنب، أن فلسطين كانت خلف الباب، لكن جيلنا توانى عن قرع الباب، فتحوّل طوعاً إلى قبيلة من الطرشان، لأن الطرش “جنرال نصر” في ساحة هزيمة، وأداة تطهر من صقيع المعرفة: أن كل ما يقال ضلال!؟
أنا من جيل ولد وفلسطين متشظية، بيوتات وولاءات، ومنظمات وحركات وجبهات، صاعقة وعاصفة وفتح وأيلول وهلم جرا، فظن أن القضية حالة فكرية، ناهيك أنه لم يسأله أحد رأيه، وجرته كل حروف الجر، وأُرغم على الجلوس على مقاعد السين وسوف، وكل الحروف الزائدة، و”ما” بعد “إذا”، فتطاير وتفتت، وراقب كل شيء حوله يرحل، يركب قطار الضد ويمضي، فبات كالتائه في شبكة الكلمات المتقاطعة، يعرف كل الإجابات، ولكنه يعرف أيضاً، أنها ستبقى للتسلية!.
أنا من جيل ولد وسكينه في ظهره، فبدا وكأنه جيل غير مبرر، لا شارك في هزيمة، ولا في انتصار، ولا سمح له بالعمل، ولا دعي للتحقيق ليقول أو يُسأل، فداسه النسيان، وطمره التهميش، ومسه صقيع غربة صالات الترانزيت، حيث المرء لا مسافر ولا مقيم، فحوّل غربته وسكوته إلى ضوضاء مروعة مدمّرة، وحرق الصالة، والجواز، وحقائب السفر، ثم طالب بالعودة إلى حضن الوطن!!.
أنا من جيل تحمّل تبعات الماضي والحاضر، وتعاقبت عليه في كل يوم الفصول الأربعة، ولا أظنه للحظة كفر، بل بقي تلميذاً نجيباً في مدرسة السكوت، مكوماً مكدوداً في قعر زجاجة من ماء النار، إن فتح فمه مات، ويموت إن صمت، ولكنه صمت، لأنه أُفهم أن كلامه قد يضر بالوطن، لأن الأوان في غير أوانه، ولأن القرار مبني للمجهول، ولأن العمر استحال نبتة صبير صغيرة، يحرق الذات ويشفي الآخرين!؟
أنا من جيل لا يبحث عن مبرر لما يجري وجرى، ولا يدعي أنه نبي، ولا زرقاء اليمامة، ولا عرافة بني تغلب تستجر ببرود محايد، وقائع الغد، فهو يعرف أن ما جرى.. جرى، وأن اهتراء قرص الشمس فوق دمشق، القاهرة، القدس، هو بعض من تجاعيد خيبات العرب، كل العرب، وبعض من تمزق أقنعة بعض العرب، حيث “يوسف” يستعاد من فجر التاريخ، ليلقى في البئر مئة مرة ومرة، وحيث يعقوب مودع في دار للمسنين بحكم المحكمة، وحيث رغم كل الوجع، ما زال جيلي الجالس فوق أشواك العار والصبار، لديه أمل أن انهيارات الرماد في منجم الوطن المغدور سوف يتكشف عن ماسٍ لم يحسب حسابه من باع جيلي وكل أجيال العرب!؟.