مشكلة قراءة
كيف نطمئن إلى أنفسنا ونعتد بثقافتنا الشخصية ونثق بمتانة حصيلتنا من المعرفة إزاء هذا الخضم من الكتب والدوريات التي تصدر هنا وهناك؟ وكيف يكون لنا أن ننظم معارفنا ونتجنب السقوط في دائرة الثقافة السطحية ونفلت، في الوقت نفسه، من دائرة الاختصاص الضيق؟
إن الفرق بين وتيرة اتساع المعرفة ووتيرة استيعابها يزداد بمرور الزمن، وعدد الكتب التي تقذفها المطابع يتضاعف كل عشرين عاماً منذ عام “١٤٥٠” ولم يعد بوسع المرء اليوم أن يلاحق كل الإصدارات أو حتى بعضها. والمطابع السورية وحدها تنتج خمسة كتب في اليوم الواحد، فكم كتاباً بوسعنا نحن أن نقرأ كل أسبوع، وأي الكتب نقرأ؟
إن العقل الإنساني في حالة سباق مع نفسه، ولسنا ندري ماذا أصبح ينتج أكثر مما بإمكانه أن يستوعب أم أنه ما يزال بإمكانه أن يستوعب أكثر مما ينتج. ففي الماضي كان بإمكان “المثقف” أن يكون “موسوعياً” في ثقافته، وأن يكون فيلسوفاً وطبيباً وشاعراً في آن واحد، هكذا كان أجدادنا الأفذاذ، بل هكذا كان بعض روادنا القريبين في الأقل، أما اليوم فإنه يتعذر علينا أن نلاحق حتى ما يصدر في ميادين اختصاصاتنا، فكيف لنا أن نكتب، إن أردنا الكتابة، في أكثر من اختصاص؟ إن هذا العصر لم يعد عصر اختصاص، فحسب بل هو عصر الاختصاص داخل الاختصاص، فعقداً بعد عقد تنشعب الاختصاصات وتتكاثر بالانشطار ويصبح المختص أكثر جهلاً بالاختصاص الأقرب إلى اختصاصه، إنها مسألة تثير الرعب حقاً وأول ما يرعب فيها أننا لن نستطيع بعد اليوم أن نتأكد من صحة ما يقوله غيرنا في حقل اختصاصه، وأن علينا أن نقبل منه ما يقوله لكونه مختصاً فيه ولكوننا نجهل اختصاصه.
هذا يعني أن التجانس الثقافي أخذ في الضيق، وأن الذين يقاسمونك اهتماماتك الثقافية ويحاورونك فيها يقلون فترة بعد أخرى وهو يعني أن الثقافة العامة أخذت في التشتت وأن الثقافة العامة الواسعة ستصبح أمراً متعذرا، فما العمل؟
إنني اسأل نفسي قبل أن أسأل غيري رغم أنني بحمد الله قارئ جيد. مع هذه التغييرات الجذرية، لابد لنا من التخصيص والانتقاء فيما نقرأ لكي يستغل الوقت في أفضل القراءات وأجداها، لم يعد ضرورياً أن نقرأ أي كتاب، ولأي كاتب ففي الموضوع الواحد ثمة اليوم كتب عديدة وبعضها أفضل من بعضها الآخر بالتأكيد. ومن هذه التغييرات لابد لنا من حصر اهتماماتنا ضمن حدود معينة لا نتخطاها إلا بشكل مدروس، لأن الاتساع في الاهتمامات يؤدي إلى تسطيح ثقافتنا بدلاً من تعميقها. وعلينا أن نبني ثقافتنا الشخصية بناء عمودياً وليس أفقياً، فقد ولى عصر الموسوعية وحل عصر الاختصاصات الضيقة، ولكن آه، كم سيفوتنا من المعارف الجليلة، وكم سيكون عالمنا الثقافي الخاص ضيقاً، ويكفي أن نتلفت حولنا في أي مكتبة نزورها لنرى كم هي خسارتنا الثقافية في كل يوم.
د. رحيم هادي الشمخي