دوستويفسكي المحرض.. تاريخ حافل بالإبداع والأحداث
يعتبر الأديب الروسي فيودور دوستويفسكي واحدا من أهم الأدباء في العالم الذين تركوا أثرا بالغ الأهمية على الأجيال اللاحقة من الكتاب، فقد تميزت جلّ أعماله بالعمق، وسبر أغوار النفس البشرية، وطرح الأسئلة الوجودية والفلسفية، وتداخل التاريخي والواقعي مع الفلسفي.
اعتبر من مؤسسي العدمية حسب ألبير كامو في كتاب “الإنسان المتمرد”، صدرت عنه عشرات الكتب والدراسات وكان منها كتاب “المحرّض حياة دوستويفسكي” للكاتب الفرنسي ذي الأصول الروسية هنري ترويا 1940، والصادر حديثا عن الهيئة العامة السورية للكتاب 2019 بترجمة جديدة للدكتورة حصة منيف 548 صفحة.
تستهل منيف ترجمة المحرض بمقدمة المؤلف ترويا الذي يؤكد أن لا سيرة كاملة ومحددة لدوستويفسكي، لكن ميزة هذه السيرة أنها كتبت بروح الإخلاص الكلي والحب الوافر.
يتألف الكتاب من أحد عشر عنوانا هي أشبه بفصول رواية مكتملة العناصر، نظرا للأسلوب الأدبي الذي ينتهجه الكاتب واللغة الدرامية السائدة،والبعيدة، إلى حد ما، عن النمط التسجيلي في كتابة السير الذاتية، فهو يبدأ فصله الأول “الأسرة” “كان الطقس باردا والثلج يتصاعد إلى ما فوق النوافذ، والغربان ترفرف فوق السهل الأبيض كأنها خرق تنذر بكارثة تحملها الريح…”.
الأسرة
في هذا الفصل يأخذنا إلى أدق تفاصيل حياة عائلة هذا الكاتب منذ عام 1506، وحتى ظهور فيدور إلى الحياة ليخط مشواره ومغامراته التي جعلت منه كاتبا كبيرا. ثم ينتقل إلى فصل “الكاتب” ليغوص، بالدراسة والتحليل،في الإرهاصات الأولى التي مهدت لسطوع شمس كاتب عظيم، تأثر في بداياته بتجارب كتاب عظام أمثال “شيلر”،”فكتور هوغو” ،”بلزاك” “غوغول”،”جورج صاند “راسين” وآخرين، وتبنى قضية الفقراء والمنبوذين منذ قصته المتواضعة “الفقراء”، وكرس نفسه للمشكلات الاجتماعية. هذه المرحلة من حياة دوستويفسكي اتسمت، كما يقول الكتاب، بكتابات متعجلة وكالحة، عرف في أثنائها بؤس الفقراء.
السجن
في فصل “السجن” يتعقب الكاتب أحداث مرحلة سجن الكاتب على أثر تأييده لتمرد 14 كانون الأول 1845 من قبل الفلاحين ضد ملاك الأراضي، وهناك كتب قصة “البطل الصغير” التي تعج بالمشاعر العاطفية والحسية. حكم عليه بالإعدام وخففت العقوبة بأمر إمبراطوري إلى الأشغال الشاقة والمنفى، هذه التجربة ألهمته رواية “الأبله” يقول: “هنالك رجال قرئت عليهم أحكام الموت وتعرضوا لآلام رهيبة ومن ثم قيل لهم، اذهبوا، تم العفو عنكم.
اكتشاف الناس
تحت هذا العنوان يتوقف الكتاب عند ماتعلمه دستويفسكي خلال فترة إقامته في “السجن” لقد كنت أنا، على العكس من ذلك، تلميذا لأولئك المحكومين “تلك السنوات الأربع شكلت نبعا سريا تغذت بها عبقرية الكاتب. وقد جاء ذلك في منتصف عمره، إذ انقسمت حياته إلى جزأين متساويين. دوستويفسكي قبل رواية “بيت الموتى” ودستويفسكي بعدها.
يحدثنا في “بيت الموتى” عما تعنيه محنة السجن بالنسبة له. صحيح أنه يتخفى وراء شخصية “ألكسندر بتروفيتش جوريانشيكوف” المحكوم بالأشغال الشاقة لأنه قتل زوجته، ولكن الواقع أن تجربته الشخصية هي التي يرويها.
الجندي الكاتب
ضمن هذا الفصل يذهب الكتاب إلى فترة دخول دوستويفسكي الخدمة العسكرية، وانشغاله بحبه لماريا ديمترييفنا، والمشاريع الصغيرة التي فكر بها، والقصائد التي كتبها، لنأتي إلى فصل “بيت الموتى” حيث ندخل إلى مرحلة جديدة من التغيرات في مواقف هذا الكاتب مع تسلم ألكسندر الثاني السلطة الذي بدأ بدراسة إصلاحات ليبرالية، ومنح حرية نسبية للصحافة وتخفيف أنظمة الرقابة، ومناقشة مسألة إلغاء العقاب الجسدي، ضمن هذه الأجواء وجد دوستويفسكي نفسه بحكم المرحب بالإصلاحات، وفي ظل هذه الظروف كتب رواية “مذلون مهانون” الرواية التي تعرضت لهجوم لاذع من النقاد، خفف من أثره استكمال “بيت الموتى” التي نشر القسم الأول منها في العدد الأول من مجلة “الزمن” كانون الثاني 1861، هذه الرواية التي أجمع النقاد، هذه المرة، على الاعتراف بمواهب الكاتب الهائلة.
في قبوي
تعتبر هذه الرواية، حسب اعترافات كاتبها، مفتاحا لكل كتاباته، لأنه كان في جميع أعماله ممزقا بين المفاهيم الطبيعية، ومافوق الطبيعة، وكان معلقا بين السماء والأرض. في هذه الفترة كان المرض يشتد على زوجته “ماريا”، ولم يكن قادرا على تحمل الافتراق عنها، فقد كانت جزءا من ماضيه وشبابه، أدرك القيمة التي لاتقدر لتلك المرأة، وهنا يستنتج ترويا أن معظم أبطال قصص وروايات دستويفسكي هم أشخاص عرفهم والتقاهم في حياته، ففي رواية “المقامر” يبدو واضحا أمرين أغرم بهما كاتبها وهما القمار و”بولينا” كثير ما يتوصل القارئ إلى الاستنتاج بأن رواية “المقامر” هي نسخة مطابقة تقريبا ليوميات “بولينا سوسلوفا”، أما بالنسبة لشغفه بالمقامرة فيفسره دوستويفسكي بقوله “غمرني دافع بأن أتحدى القدر، بأن استهزىء به وأمد له لساني.
بعد عودة أسرة دوستويفسكي إلى سان بطرسبرغ بعد رحلة سنوات في أوروبا، كانت العائلة لا تملك سوى روبلات قليلة، قررت “أنا جريجور بينا” إعداد طبعة لروايتي “الممسوس والأبله” في مجلد واحد باعت منه في سنة واحدة 3000 نسخة، كما عرض الأمير “ميشيشيرسكي” ناشر مجلة “المواطن”. على دوستويفسكي رئاسة تحريرها براتب 3000 روبل في السنة، هذا العمل ترك له وقتا لمتابعة الكتابة حيث أنجز رواية” المراهق”، ثم “الأخوة كارامازوف” وينتهي الكتاب بمرحلة مرض هذا الكاتب العظيم وموته التراجيدي.
آصف إبراهيم