حكايات الفصول الأربعة ..تفاصيل حياة
كانت حياته مفعمة بالحيوية إلى حين أنهكه المرض، امتلك حضوراً نشيطاً لافتاً للاهتمام فما خلت محاضرة ثقافية من حضوره فيها، مستمعاً أو محاضراً، كمال راغب الجابي المفكر والأديب السوري كتب حكايات “كرنفالية” في تسعينيات القرن الماضي وبدايات القرن الحالي، وقام بإلقائها أمام حشد غفير من المستمعين في المراكز الثقافية، وكان صداها طيباً، فقد كان الجابي في كل ما قدم وألقى، يتماهى مع الفكر وفضاءاته، ويلقي حكاياته الشيقة بطريقة مميزة، تحمل الكثير من دقة المعلومة، وتتميز بسرد جميل ولغة سلسة متأنية صبورة فيها الكثير من الخواطر والأفكار النيرة والأقاصيص الجميلة البعيدة عن الرتابة والادعاء وعرض العضلات، لأنه كان يكتب ونادراً ما كان يفكر بالنشر، فقامت شقيقته زكاء الجابي بجمع الحكايات في كتاب وأطلقت عليه عنوان “حكايات الفصول الأربعة” الصادر عن وزارة الثقافة- الهيئة العامة السورية للكتاب، وقدم له د. علي القيم الذي أشار إلى أنه وجد فيه ملامح واضحة تدل بما لا يقبل الشك على أديب كبير لم يأخذ حقه من التقدير والتكريم.
في “حكايات الفصول الأربعة” ملامح واضحة تدل على أديب كبير يرى الحياة في كل ما كتب من خلال عدسة مكبرة يتعرف من خلالها على تفاصيل الحياة ودقائقها التي عاشها في ألمانيا وسورية وبعض الدول الأخرى، عاشها بحيوية وإشراق ويقدم عنها لمحات ومحطات بلبوس حضاري ورؤية تتميز بالصدق والتعبير المشرق الجميل، هي حكايات منبثقة من بعضها تعطي للحياة طابعها وخصوصيتها وطعمها الخاص، بشكل يمكن اعتبار كل منها فصلاً من فصول مسرحية اجتماعية واقتصادية وسياسية وفكرية وتدور أحداثها خلف كواليس الحياة وهمومها حيناً أو فوق خشبتها حيناً آخر، وقام بإعطاء كل حكاية من هذه الحكايات عنواناً خاصاً يميزها عن غيرها ويبين فحواها ومضمونها ويمدها باستقلالية تجعل منها حدثاً قائماً بذاته مثل “مكره لا بطل” و”من يدري” و”اختلاطات” و”الأصدقاء والنساء” و”صديقي الدكتور” و”الحب والحياة” و”مجتمع الحب والمحبة” و”فلوس ونفوس” و”ساعة حرة حكايات من الشرق والغرب” و”حواريات اقتصادية” و”المرأة في المرآة” و”الحب في فصوله الأربعة” و”الأم والأب والحب والحرب” و”الروح والريح والراح” وغيرها.
في كل حكاية من تلك الحكايات، وكل سردية من سردياته الهادفة الواعية، يتعمد استقطاب المزيد من الانتباه والاهتمام إلى مقولة أساسية هي الحب للحياة لأن مفرداتها كفيلة بفتح النوافذ المغلقة، ومعالجة المشاكل المطبقة واستقبال الشمس المشرقة واستبعاد الأخطار المحدقة، فالحب هو الحياة، وهو لها كالشمس مصدر الحرارة والضياء والحياة هي المحبة وحاجتنا لها كحاجة الجسد إلى الغطاء في فصل الشتاء. دفعه حب البحث والاستطلاع إلى تتبع جذور العلاقة بين المرأة والرجل إلى عصور ما قبل التاريخ الموغلة في القدم، وقادته هواية البحث والتقصي إلى محاولات جادة في لملمة الصور المتناثرة، والقيام بتنسيق ملامحها المتغايرة وجمع تقاسيمها المتنافرة.
من أهم ما يميز كتابات كمال راغب الجابي، وما يلفت النظر أنه في كثير من الأحيان يقوم بالاسترشاد بأحداث الماضي، والاستدلال بمعطياته وأفكاره ورجالاته لتتبع مشوار نشوء مفهوم الحب الذي نحن أحوج ما نكون إليه في عالم اليوم، عالم الأزمات والاغتراب والاستلاب الفكري والحضاري، عالم “العولمة” و”الفوضى الخلاقة” و”الحرب الناعمة”، وبعد ذلك قام بجمعها في سياق واحد، بعد استبعاد الناشر النافر الذي قد يؤدي إلى تشتيت الإضاءة وبلبلة الرؤيا حرصاً على وضوح المعالم وتفادياً لتشويه وخلخلة المساقط، وساقتنا تصوراته الرائعة والواعية إلى المساهمة في استقراء الأشكال الجديدة التي يعكسها تطورها المستمر استناداً إلى ماضيها، وارتكازاً على حاضرها، وتطلعاً نحو مستقبل أفضل.
يقول المؤلف في حكاية “نظريات في الحب ونظرات إلى المحبة”: “الحب كلمة سحرية تتألف إضافة إلى أداة التعريف من حرفين، أولهما يخرج من أسفل الحلق وكأنه ينضح بما في الأعماق بشكل مشابه لما يؤديه في كلمات حر وحلو وحام وحان، والثاني ينطلق من ضم الشفتين وانفراجهما وكأنه يريد أن ينفلت وينفلش ليبلغ، معبّداً الدروب أمام القلوب لإزالة الكروب ونثر الطيوب ومدلول هذه الكلمة ذو علاقة وثيقة بالروح لأن الروح بحكم نفخ القوة الإلهية فيها لغز الخلق وركز الوجود وحرز الإنسان وحوزه في آن معاً”.
اختار الطفولة لأنها مرحلة البدايات في هذه الحياة وبوصفها من أبرز اهتمامات الآباء والأمهات، والصفحة المشرقة في تاريخ الأمة العربية الحديثة والتي يقوم أطفال الحجارة ببدء التسجيل عليها مشرعين الأمل بوساطتها على أبواب المستقبل، فدخل عالم الطفولة وحام بين نجومها وكانت قصته بعنوان “طفولة العالم وعالم الطفولة”، جال داخل عوالمها ليتعرف إلى معالمها، الطفولة لغة هي المرحلة التي تلي الولادة مباشرة وتمتد حتى سن البلوغ، وكلمة “العالم” لغة الكون والمكونات والخلق والمخلوقات والوجود والموجودات، يلخص في هذه الحكاية أن الحب الذي يُمنح للأطفال لا ينبغي أن يقتصر على حملهم على رموش العين وإسكانهم في أعماق الأوردة وحراستهم وحضنهم فحسب، وإنما ينبغي أن يمتزج بمحاولة إبقاء قلوبهم صافية الود لا تحمل الكره ولا الحقد، وترتيبهم على كيفية حمل المشاعل لإنارة الطريق للجميع وليس للفرد، وغرز بذور عدم ترفعهم على الآخرين وعدم استصغارهم لهم وتحذيرهم من مكامن الخطر التي تتشكل عند ممارسة الظلم على البشر، وتنبيههم إلى أن الحب وحده بحائه الحارة وبائه البارة والمحبة المفروزة عنه بميمها الضامة وتائها ذات الاستدارة التامة هما وحدهما الطريق إلى الصفاء والهناء.
عُلا أحمد