رحابةُ لغتِنا الجميلةِ
يختلفُ الأمرُ، تماماً عندما تفيء إلى ظلالِ كتابٍ/ما/، وقد أخذتك سكينةُ هدوة لكأنّكَ في جزيرةٍ ما مسّها بحارُ.
فالصمتُ إطباقُ ثغرِ الدُّنا عن سماعِ أيّ صوتٍ قد يُدانيكَ من هنا أو هناك، ولئن قاربتَ هذا، فإنّكَ واجدٌ في مرامي جمالِ الفكرِ بأنواعهِ المعرفيّةِ كلّها ما يتقدّم بخطواتٍ وخطواتٍ عمّا قد يجودُ بهِ لسانٌ في مقاربةِ “قال وقيل” غالباً.
وممّا لا شكَّ فيه أنّ جسرَ العبورِ إلى تلك السيولةِ المعرفيةِ لا يكونُ إلّا من خلالِ “الّلغة”، هذه اللّغة التي هي في عمقِها، وأنتَ تلملمُ ببصيرتك ضياءَ جمالها سرعان ما تحسّ بنعمةِ الصّمتِ الذي فيه تأمّلٌ يفضي إلى بوحٍ مهذّبٍ.
وإذا ما مرَّ أمامَ ناظريك قول “حمزاتوف”: (… يحتاجُ المرءُ إلى سنتين ليتعلّمَ الكلامَ، وإلى ستين عاماً ليتعلّمَ الصّمتَ) فإنّكَ تدركُ أنَّ في ثنائيةِ التعلّمِ كلاماً وصمتاً ثمّةَ مُقامٌ جامعٌ لكليهما إنّهُ التعلّمُ الذي أداتُهُ مادةٌ هي “اللّغة” ومهارةٌ هي التعلّمُ.
واللّغةُ العربيةُ هي مادةٌ طافحةٌ في ماهيّتِها الإبداعيّةِ، غنيةٌ في دلالاتِها وجماليّاتها، مثلما هي حاضرةٌ في نتاجاتِها شعراً ونثراً، وهي تزدادُ رسوخاً بتشعشعِ ضيائها على قدرِ ما نمتلكُ،- نحنُ العربُ– عمقاً من ابتكارِ آلياتِ التّعلمِ، وإدراكاً ونضوجاً في تمثّلِ حيثياتِ لغتنا براعة في مقاربةِ نفحاتِها العابقةِ أفانين سحرٍ أخّاذٍ.
واللّغةُ كونها شعيرة جماعيّة فإنّهُ يتحتّمُ علينا أن نقرأَها ماهيّةً في طبيعتها، وتبصّراً في التعاطي تحقيقاً لتجاوزِ استهلاكِها محاكاة، بل لنكونَ قادرين على أن ننتجَ فيها.
فاللغةُ بذارُ العقلِ المبدعِ، وهذا يعني أن نتسرّبَ في حناياها بقرائحِنا وأقلامِنا عبرَ مهاراتٍ تعزّزُ حضورَنا في تفعيلِ لغتنا من جانبٍ، وتفعيلِ حضورِنا أمامَ مكانتِها من جانبٍ آخر.
فما أكثرَ العلماءَ والدارسين والمهتمين والمنشغلين الذّين سرَوا بجيادِهم في ملاعبِها سرداً وتفسيراً وتحليلاً وتأويلاً و– ما تزال– لغتُنا تحملُ بينَ ظهرانيها الكثيرَ الكثيرَ من قدراتٍ تلوحُ لنا كي نكونَ حاضرين في رحابِها مبدعين، نحفّزُ حضورَها عبرَ تأكيدِ مكانتِها تواصلاً أمامَ لغاتِ العالمِ لتغدوَ لغتُنا متكوثرةً في أصالتِها، ومنفتحةً على كلِّ جديدٍ في كلِّ مناحي العلومِ النّظريةِ والتطبيقيّةِ، ومختلفِ ما يستجدُّ من نتاجاتِ العقلِ البشريّ في الصناعةِ والثقافةِ وأرقى أنواعِ العلومِ في عصرِ التّدفّقِ المعرفي، ولم تكنْ لغتُنا يوماً بذاتِها وعلمائِها إلا صاحبةَ قصبِ السّبقِ في إيجادِ آلياتِ التّواصلِ والتّفاعلِ كالاشتقاقِ والنّحتِ والتّرجمةِ ومواكبةِ المصطلحاتِ ومقاربةِ كلِّ جديدٍ.
هذهِ اللّغةُ التي تماهَتْ في طبيعتِها، وانبسطَتْ في أنساقِها المتعددةِ مثل النّسق الصوتيّ، والدلاليّ، والنحويّ، والصرفيّ، والمعجميّ لم تكنْ على الرّغمِ من كلِّ ذلك غايةً في حدّ ذاتِها، وإنّما هي أداةٌ يتواصلُ بها أفرادُ المجتمعِ تعبيراً عن الحاجاتِ والأحاسيسِ وتنميةً للأفكارِ وتعزيزاً لقدراتِ الذّكاءِ، وقد أكَّدَ علماءُ النّفسِ أنّ النموَّ العقليَّ للإنسانِ منوطٌ بنموّهِ اللّغويّ، فجدلُ التّفكيرِ الذاتيّ الضّاربِ في التبصّرِ والتأمّلِ يقتضي المزيدَ من البحثِ والتقصّي وهذا يزيدُ في الحصيلةِ اللغويةِ مفرداتٌ، وفي الوعي المعرفيّ غنىً، وفي مُعطى اللّغةِ ثراءً في التّنوعِ، وتفرداً في الدّلالاتِ عبر سُكنى مطارحِها في عوالمِ معانِيها سعياً وراءَ معارفٍ تُشَـدُّ نحوَ الرّكائبِ، وعندَها تحطُّ الرحالَ مع ما يرادُ لها ضمن توليفة إبداع في التفكيرِ فتقوى محفّزاتُ تمكينِ المرءِ ذاتِهِ لمهارةِ اللّغةِ في الرّبطِ والنّقدِ وحسنِ الأداءِ وتحقيقِ التّوظيفِ العمليّ لإدراكِ ماهيةِ اللّغةِ ومنظومتِها وهذا يساهمُ في تأكيدِ اللغةِ عبرَ وظائفٍ أخرى معرفيّة وحضاريّة.
إنّ تاريخَ لغتِنا العربيّ وعيٌّ مستأنفٌ مستحدثٌ عبرَ خصوصيةِ الّلغةِ ومبدعِها ضمنَ علاقةٍ تبادليّةٍ بينَ العربيّةِ وأبنائِها، ولقد خصَّ العربيُّ برؤاهُ الجماليّةِ الحرفَ والكلمةَ والعبارةَ يحدوهِ في ذلك أمران الهواية والحرفيّة، وهو الحاضرُ انتشاءً بلغتهِ التي هي زادُهُ في حلّهِ وترحالِهِ وتتطلّعاتِهِ وآمالِهِ، فهي خبزُهُ به يقوى ويعبّرُ ويصبو ويطمحُ ويقرّرُ.
فالحرفُ في ذائقتِهِ لهُ أوزانٌ، وله دلالةٌ فحرفُ الحاءِ قد يزنُ عشرين غراماً على سبيلِ المثالِ فيغدوَ رفيقاً في مقاربةِ تربةِ الفلاحةِ فيقولُ: (فلحَ الأرضَ) بينما حرفُ القافِ قد يزنُ ثمانين غراماً فيوفق مُعطى قوّة الصّخر فيقولُ العربيُّ: (فلقَ الصخرَ)، وشتّان ما بينَ ليونةِ تربةٍ وقساوةٍ صخرٍ، لكن ثمة فطنة في مقارنة اصطفاء لاختيارِ الحرفِ الذي يناسبُ، وكذا الأمر في اقتفاءِ الشّعراءِ لأهمّيةِ حرفِ القافيةِ عندما يؤسسون لخرائدِهم الطول وهكذا هو الأمرُ في ذاتِ الكلمةِ التي هي في كينونتِها وحدةٌ لغويةٌ أصيلةٌ تشاركُ بفاعليةٍ في تكوينِ معارفِ الإنسانِ وتجاربهِ وأفكارهِ وصورهِ الذهنيّةِ. فهي نقطةُ الإبداعِ الكلاميّ فما هو خبيءُ النّفسِ وفق الألسنيّةِ التطبيقيةِ وعلمِ النفسِ سرعان ما يتراءى على سطوحِ الكلماتِ وفضاءِ أيّ خطابٍ لغويّ تعبيريّ، وإذا ما أحسنَ أحدُنا إدراكَ اختيارِ فرائدِ المفرداتِ، ودررِ الكلماتِ بما يتوافقُ والنّظامُ المعرفيُّ الذي يريدُ فإنّهُ يتجاوزُ اللّغةَ الإجرائيّةَ الوسيليّةَ إلى اللّغةِ الإبداعيّةِ وتقنياتِ التأسيسِ الجماليّ لدورِ اللّغةِ كونها في كينونتِها الجوهريّةِ موجوداً، إلى كائنٍ لغويٍّ منتجٍ في اللغةِ وطاقاتِها، فاللّغةُ بذلك تطالبُنا أن ننعمَ النظرَ في مصادقةِ “وخيُر جليسٍ في الأنامِ…” ضمنَ عنواناتٍ متعدّدةٍ، وبقراءةٍ متبصّرةٍ ناقدةٍ وبسعي نحوَ الكشفِ عن لآلئِ الكلماتِ في محاراتِ القواميسِ والدواوينِ وكتبِ التّراث ومنتجاتِ الحضارةِ ومحاولةِ التبصّرِ أكثر للمصطلحاتِ التي هيَ “حصونُ المعاني” محاولين على الدّوامِ أن ننتبهَ إلى ذاك الثراءِ اللغويّ الذي يتوسّدُ زندَ المعجماتِ ويلتحّفُ غبارَ النسيانِ نتيجةَ انبهارنا بلغةٍ تحاكي حاجاتِنا الحياتيةَ، مع ما لدى لغتِنا من غنىً ودقةِ معنىً، ودلالةٍ لكلّ كلمةٍ وإن كانتْ في عموميّتها تدورُ في رحى “الترادف” فليستْ الكلماتُ نفسَها فمثلاً كلمةُ الطريقِ عندما تكونُ في الرملِ تسميها العرب “الدعبوب”، وعندما تكونُ في رأسِ الجبلِ فهي “النقب” وعندما تكونُ في سهلٍ منبسطٍ وحَزنٍ واسعةٍ فهي “الدليع”، أمّا من حيثِ مادةِ الكلمةِ في معناها المعجميّ فإنّها تؤكّدُ معنىً مباشراً وعندما تطرقُ بابَ المجازِ فتراها تتصدّرُ معنىً آخر، ومثال ذلك قولهم في مادةِ “قرش” تقارشَتْ الرماحُ، واقترشت: تشاجرَتْ، أمّا في المجازِ فقالوا: سنةٌ مُقرشة شديدةٌ، وقرَش بين القوم: سعى وأفسدَ، هكذا هي الكلمةُ خليةٌ أولى في التعبيرِ، وخبرةٌ واصطلاءُ مشاعرَ في موقدِ العاطفةِ ونبراسُ ضياءٍ في فضاءاتِ حقّ لا يدانيهِ باطلٌ، ولا تقوى أمامَه الرياحُ الهوجُ ولا سيّما إذا ما انتظمَتْ الكلمةُ في أسيقتِها لتصبحَ عندئذٍ واسطةَ العقدِ على جيدِ الزمانِ وقد عرفَ بحسنِ مكانِها حادقٌ فطنٌ هو كابن الصّحراءِ العارفِ بمنابتِ “القصيص”، وقد تمتّعَ من عرارِ نجدَ وشميمِ الشيحِ والقيصومِ، وقد لوّحَ لمعنى الإبداعِ في تراشقِ حراب، واصطكاكِ سيوف في مرمى اعتزازٍ، أو أوجاعِ ذاكرةٍ في مضاربِ أرحامِ أهلٍ وأحبابٍ عاتبها صفاء ليلِ الصحراءِ الجميلِ. ونحنُ نشعرُ انطلاقاً من وعينا وجمالِ لغتنا، وإحساسِنا بذلك أنّه لن يداخلَنا تعثّرٌ في أعمالِ عقولنا لنكونَ مُدرة القومِ في الإبداعِ شعراً ونثراً صدى لنتاجاتٍ أدبيّةٍ وعلميّةٍ وفلسفيّةٍ وفكريّةٍ وتقنيّةٍ..
إنّ السّارحَ مع المعلقاتِ الشعريةِ ومختلفِ مسمياتِ المطوّلاتِ كزهدياتِ أبي العتاهيةِ وتشبيهاتِ ابن المعتز ولزومياتِ أبي العلاءِ ومدائحِ البحتري إلى الأدبِ الأندلسيّ، والمهجريّ، والأطلالِ وخالقةِ، وقارئةِ الفنجانِ وكلّ قصيدةٍ جادَتْ بها قريحةُ العربيّ بالحبِّ والطبيعةِ والإنسانِ والوطنِ والقيمِ على مدى تعاقبِ العصورِ إنّما هي معلمٌ في إرادةِ النّبوغِ، وسطورِ ضوء في شهامةِ التلقي، والتقديرِ والاحترامِ.
وإنّنا نحنُ – أبناءَ العربيةِ– معنيون أن نُحسنَ اكتسابَ مهاراتِ الّلغة عبَر آلياتِ التّعليمِ والتعلّم ومواظبةِ مادةِ اللّغةِ العربيّةِ عبرَ المناهجِ المدرسيّة ولا سيّما في ثورتِها الإبداعيّةِ المستجدّةِ تحديثاً وتطويراً والتي أضحتْ حقيقةً واقعةً، ووعياً مجسّداً في مصفوفةِ المدى، وتنامي المعارفِ، وتنوّعِ الطرائقِ والاستفادةِ من توظيفِ التّقانةِ، والعملِ على تعزيزِ دورِنا في تمثّل مهارتي (الاستماع والتّعبير الشفوي) بالإضافةِ إلى التعاملِ مع المناشطِ الصفيّةِ واللاصفيةِ التي فيها اللغة تنتجُ وعياً يتجاوزُ التلقينَ بالمطلقِ إلى تجسيدِ اللّغةِ وعياً وسلوكاً في جانبِ استخدامٍ للغة لتكونَ من التّعليمِ إلى التعلّم، ومن المدرسةِ إلى الحياةِ، ومن الحفظِ إلى الابتكارِ، ومن الاستهلاكِ إلى الإنتاج ، وهذا يكونُ بحشدِ قدراتِنا جميعاً، كلٌّ في موقعِهِ.
أمّا التعليم بأنواعهِ فيكونُ بينَ المعلّمِ والمتعلّمِ والوسائطِ التي ترفدُ كليهما، إضافةً إلى القوى اللّينةِ، والمدارسِ الخلفيّةِ كالصحافةِ ودورِ النّشرِ والإذاعةِ والتّلفازِ والسينما والشابكةِ والتي كلّها –تتسابقُ كما يجب– أن يكونَ نحوَ لغةٍ فصيحةٍ تتجاوزُ الجانبَ الإجرائيّ إلى تأكيدِ الجانبِ الإبداعيّ المحفّزِ الذي يبهرُ السامعَ، ويجعلُهُ منتشياً ببراعةِ ما يُقدّمُ بأداءٍ فنيٍّ نبيلٍ، وبصوغٍ وهّاجٍ وبمصداقيةٍ مرجعيّةٍ تعتمدُ البحثَ والتأصيلَ والتوثيقَ بحرفيّةٍ ودرايةٍ ودربةٍ، فتعيشُ اللغةُ ربيعاً متجدداً عبقُ طيبُها حضورُ شهامةِ حرفٍ في حرابِ المكافحين، وسطوعُ نجومٍ متلألئةٍ ترقبُ أحلامَ العذارى في ليلِ الساهرين، ونضحُ حبّاتِ عرقٍ على جباهِ الكادحين وهم يرصدون أكوامَ الزروعِ على بيادرِ العزّ، ومواسمِ العطاءِ، وزيادةِ حرفٍ في قامةِ أمّةٍ هو صليلُ سيفٍ في ساحاتِ الوغى، ونبوغُ حرفٍ في مجالسِ الفكرِ.
إنّها لغتنا الريّانةُ بدفقِ العاطفةِ، والناهضةُ بشموخِ الإباءِ، إنّها هويتُنا.. عالمُنا.. بها نعتزُّ ونقوى.
نزار بدور