فرنسا ماكرون.. إلى أين؟
منذ خمسة عشر يوماً تتواصل الاحتجاجات في فرنسا ردّاً على عزم حكومة الرئيس إيمانويل ماكرون المضي قدماً في إقرار قانون موحّد للتقاعد بدلاً من الـ42 قانوناً المعمول بها حالياً، الأمر الذي أدّى إلى تفجّر الأوضاع في “بلاد النور”، حيث وصلت خلال الأيام الأخيرة إلى قطع الكهرباء عن مؤسسات مركزية في الدولة، وشل حركة القطارات، بعد رفض واسع من النقابات العمالية للقانون المقترح، الأمر الذي طرح الكثير من التساؤلات حول الواقع الفرنسي، ولاسيما منذ قدوم الرئيس ماكرون، فهل الأمر عائد إلى عدم قدرته على قيادة السفينة الفرنسية، وماذا عن فرنسا نفسها ودورها الأوروبي والدولي، وهل مازالت دولة كبرى؟.
مع وصول ماكرون وحزبه “إلى الأمام” إلى السلطة في فرنسا قبل عامين، اعتقد المراقبون للأوضاع في فرنسا أن الانتصار الساحق الذي تم له سيمكّنه وحزبه في الجمعية الوطنية، التي يهيمن عليها، من إقرار القوانين والتوجهات، سواء الداخلية أم الأوروبية، التي تتناسب مع الفكر الذي يقوم عليه حزبه، والذي نادى به ماكرون خلال الحملة الانتخابية للوصول إلى قصر الإليزيه، ولكن جرت الرياح بما لا تشتهي مراكبه، فالاحتجاجات لم تتوقّف والمشكلات الاجتماعية والسياسية تتفجّر الواحدة تلو الأخرى، بداية من قصّة معاونه الأمني ألكسندر بينالا، وليس انتهاءً بأزمة “السترات الصفراء” التي دخلت عامها الثاني، واليوم الاحتجاجات العمالية العارمة، إضافة إلى الفشل في انتخابات البرلمان الأوروبي، التي كان يراهن عليها ماكرون كثيراً، حيث جاء حزبه فيها في المركز الثاني خلف حزب ماري لوبان، اليميني المتطرّف، الأمر الذي أدّى بعد سنتين من وصوله إلى قصر الإليزيه إلى تدهور شعبيته وفق استطلاعات الرأي الأخيرة، حيث كشفت أن 65 % غير راضين عن أدائه الداخلي، في حين رأى 63 % أن ماكرون لم يستطع الوفاء بالوعود التي قدّمها للناخبين الفرنسيين خلال حملته لانتخابات الرئاسة الفرنسية، ما يعني أن الوعود بجمهورية سادسة تعيد لفرنسا هيبتها وموقعها الأوروبي لم تنجح حتى الآن.
أما على الصعيد الدولي، فيمكن القول: إنه منذ الفترة الرئاسية الثانية للرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك، مروراً بـ”نيكولاي ساركوزي وفرانسو هولاند”، بقيت باريس رهينة بشكل كبير للموقف الأمريكي، وقد بدا هذا جلياً في الكثير من الملفات الدولية. وفي عصر ماكرون لم يتغيّر الوضع كثيراً رغم سعيه إلى أن تكون فرنسا بعيدة عن أمريكا من خلال استخدامه البوابة الأوروبية عبر الدعوة إلى تأسيس جيش أوروبي موحّد، في حين فشلت كل مساعيه في حماية اتفاقية المناخ التي تم التوصل إليها في باريس بعد انسحاب واشنطن منها، حتى عندما حاول الالتقاء مع روسيا تم تفجير مسألة التدخل المزعوم لموسكو في الانتخابات الرئاسية في وجهه. بالمحصلة فرنسا في عهد ماكرون لم تستطع أن تعود إلى الواجهة التي كانت عليها سابقاً، فهل هناك من يريد جرها إلى موقع جديد؟.
إن الوقائع المسجّلة في فرنسا منذ قدوم ماكرون، بداية من فوزه كأول رئيس من خارج الاصطفافات الحزبية، التي كانت مسيطرة منذ تأسيس الجمهورية الخامسة ما بين “يمين- يسار”، من بوابة حزب جديد على المشهد الفرنسي، توحي بأن فرنسا تمر بظروف قد تكون مشابهة نوعاً ما لما مرّت به بريطانيا قبل التصويت على بريكست من مظاهرات واحتجاجات، بهدف دفعها إلى اتخاذ قرار تاريخي بالخروج من الاتحاد الأوروبي، والذي سيكون بمثابة انهيار كامل للمنظومة الأوروبية برمتها، وربما أيضاً سنكون بالفعل أمام ولادة جمهورية فرنسية سادسة تعيد ترتيب الأوراق الفرنسية وفق المتغيّرات العالمية الجديدة.
سنان حسن