الفنون والثقافة، وبناء المجتمع
وضع السيد الرئيس “بشار الأسد”، في المقابلة التي أجراها مع إحدى القنوات الغربية مؤخرا، دور الفنون والثقافة، في إعادة الحياة الاجتماعية السورية إلى الوضع الطبيعي الذي كان قائما فيها بشكل تلقائي وعبر عصور طويلة، فبعد حديثه عن دور المؤسسات الدينية التربوية والتعليمية في إعادة التأهيل الفكري، جاءت هذه النقطة في الترتيب المجدي لها، فمن الطبيعي عندما يكون الخطاب الديني الظلامي هو السائد في مكان ما، ستنتفي تلقائيا الخطوتين التاليتين، أي التعليمية والثقافية، خصوصا وما نعرف عن حال هذا النوع من الفكر –في حال جازت عليه التسمية-إن كان مما عايشناه ورأيناه خلال السنين المظلمة التي مرتّ علينا بعد بدء الحرب على البلاد بأهلها ومؤسساتها وكل ما فيها، أو من خلال التاريخ الأسود الدامي للعديد من الأسماء التي عملت على ضرب جوهر الدين مباشرة، وذلك بضربها من خلال ما انتجه عقلها المريض أو المأجور، مفهوم الرحمة والتراحم، وهما من أهم أركان قيامة أي مجتمع، فعندما يَصح الفكر الديني، لا حسب الأهواء والأمزجة، بل حسب مفهوم الرسالة الدينية الأخلاقية، وحسب جوهر الدين أو الاديان نفسها القائمة على الرحمة، ستتعافى بشكل تلقائي النفوس التي وعت فكرة “الدين-الدم”، ما يجعل قابليتها للعلم أكثر انفتاحا، فتأتي الفنون والثقافة، لتكمل هذا الثالوث المقدس في الحياة الإنسانية.
وعندما كان لكل من المؤسستين الدينية والتعليمية، من هم يشتغلون على هذا، يبقى دور الثقافة والفنون التي تُهذب النفوس، وتسمو بالأخلاق، وتُعزز قيم الحق والخير والجمال، من خلال ما تقدمه وتطرحه في المجتمع من ضروب مختلفة تنضوي تحت تسمية الفنون، إن كان في المسرح، السينما، الشعر، الرواية، القصة، الرقص أو الإيماء، ولكن الفنون عموما هي سلاح ذو حدين قاطعين، والتعامل معها بغية النهوض من خلالها بالذوق العام للجمهور، يجب أن يكون مدروسا ومشغولا بدراية وخبرة وعلم، فاليوم أي كان تقريبا قادر على تقديم ما يريد قوله في هذا الشأن، خصوصا وأن الموضوع صار يسيرا بتوفر التقنيات اللازمة لذلك، كمنصات التواصل الاجتماعي بمختلف أنواعها، فمثلا واحد من أخطر الفنون وأكثرها تأثيرا في المجتمعات عبر التاريخ، خصوصا في مجتمعنا العربي، هو الشعر، صار مُباحا أي كلام فيه، سواء كان حقا يمتلك الميزة الفنية، أو العكس، وما من ضابط لهذا، والفوضى الممزقة، هي ما يمكن أن نصف به ما حلّ بهذا الفن البديع، المُعلم، والمُهذب، والمُربي في مرحلة ما، إلا أن الفنون البصرية، هي الطاغية اليوم، خصوصا فيما يتعلق بـ “الدراما” بأنواعها –مسرحية، سينمائية، تلفزيونية-، وهي الأخطر، باعتبارها الأكثر شيوعا اليوم بين باقي الأنواع، فالدراما التي منعها أفلاطون في جمهوريته الفاضلة، إلا ضمن شروط لا جدال فيها، واعتبر أن التأثير الذي يؤدي إليه الشعر والفنون هو تأثير سلبي، لأنه يتأتى عن التمثيل ويؤدي إلى إضعاف المتلقي وليس العكس، وجاء تلميذه “أرسطو”، من بعده، لا ليعارض معلمه فيما ذهب إليه، بل ليجعل من “الدراما” المحرمة في الجمهورية الفاضلة، أداة فعالة فيها، من خلال مفهوم “التطهير”، الذي جاء في كتابه الشهير “فن الشعر”، ومفاد ما أورد فيه بما يتعلق بهذا الشأن، هو اعتباره أن التطهير الذي ينجم عن مشاهدة العنف على المسرح، يشكل عملية تنقية وتفريغ لشحنة العنف الموجودة عند المتفرج، مما يحرره من أهوائه.
وباعتبار الدراما التلفزيونية تدخل كل بيت، فهي إذا الفن الذي يجب العمل والاشتغال عليه، بعناية وحرص ودراية وخبرة بطبيعة التركيبة الاجتماعية، خصوصا وأنها مصابة في صميم جوهرها كفن، ممتع، مفيد، توعوي، تطهيري، وذلك ما يُجمع عليه اغلب النقاد عن حال هذا الفن اليوم، وكنا قد تحدثنا في غير مقال، عن خطورة هذا التدهور وبكافة أشكاله الذي حطّ من قيمة هذا الفن، وبالتالي بالخراب الذي كان من بعض نتائجه، فالجمهور يُحاكي ما يرى لا شعوريا، فهل درامانا وعت مصائبها اليوم، أم أنها ماضية بما تُمليه عليها الحالة التجارية، التي صارت هي المتحكمة فيها؟
يجب أن يعي كل المشتغلين في هذا الفن، جسامة وخطورة ما يقدمون للناس، وفي العودة إلى تأكيد السيد الرئيس، على دور الفنون والثقافة الهام والأساسي في بناء المجتمعات، خصوصا تلك التي خربتها الحروب، يجيء دور المثقف في تصويب الخطأ، والتنبيه منه، والعمل على تصحيحه، وهذا يدفعنا للسؤال: ماذا نحن فاعلون حيال اللوثة التي اصابت الدراما المحلية، بتحويلها لسلعة تجارية، فيها ما فيها من المصائب التي تُعتبر بُعرف أهل الربح “تسويقية”، كسفاح القربى الذي رأيناه في العديد من الأعمال الدرامية المحلية، أو تضيق وعي المتلقي، وذلك في حشره ضمن الأزقة الضيقة لما يسمى بـ أعمال “البيئة”، التي بقصد أو بدونه، اختصرت البلاد بـ “حارات”، وأهل العقل والحكمة بـ”عكيد” لا صبر ولا بصيرة لديه، بل “بوجقة” واستعراض هزيل لبرم “الشوارب” وما تعنيه، ومُعلم همه “كرشه”، و”مثقف” يظهر غالبا بدور “الخائن”، والأخطر هو ما قدمته من صورة عن المرأة، -رمز الحضارة-، تنحصر في الغواية ونصب المكائد والدسائس.
ما جاء عليه السيد الرئيس في المقابلة آنفة الذكر، خصوصا بدور الفنون والثقافة، يؤكد وفق نظرته الثاقبة لهذا الشأن، وبما لا يدع مجالا للشك، بأن عليها واجبا جسيما حيال مجتمعها، وهذا ما يجب أن يُدركه بشكل خاص صٌناع الدراما التلفزيونية، فهي كما قلنا، صارت في كل بيت وفي متناول جميع أفراد الاسرة “نواة المجتمع”، كبيرها وصغيرها.
تمّام علي بركات