ثقافةصحيفة البعث

تأبين د. علي السرميني الفنان والمناضل الوطني والسياسي

 

لم يشأ أن يترك ألوانه تبكيه وترثيه ولم يرغب بتركها وحيدة بعيدة عن نغمات أصابعه فآثر أن ترافقه إلى مثواه الأخير في دمشق التي أحبّها، د. علي السرميني الأيقونة والشمعة التي لا تنطفئ بالموت، كانت روحه هائمة بحفل التأبين الذي أقيم في مكتبة الأسد لمناسبة مرور أربعين يوماً على رحيله، بحضور د. محسن بلال عضو القيادة المركزية للحزب – رئيس مكتب التعليم العالي، ود. بثينة شعبان المستشارة السياسية والإعلامية لرئاسة الجمهورية وعدد من الوزراء الحاليين والسابقين” وعدد من أعضاء مجلس الشعب، وكثير من الأدباء والفنانين والمهتمين وطلاب الفقيد وأسرته.
أعاد الفيلم التوثيقي “الأيقونة” صوراً جميلة عاشها الجميع معه، فمن متحفه الصغير الذي يضم لوحاته وألوانه ومقتنياته الخاصة التي تبكي غيابه، بدأت متتالية الصور لتعود بنا إلى صور د. السرميني وهو يرسم في متحفه، ومن ثم استحضر مسيرة طويلة من الفنّ والإبداع بريشته التي عزفت مقامات الشرق العريق بألوان الطريق العتيق بين دمشق وحلب.
ومن كلية الفنون الجميلة في دمشق التي كانت قطعة من روحه، مضى الفيلم باختزال مراحل دراسته إلى أن نال درجة الدكتوراه من ألمانيا، وعاد إلى أرض الوطن وتدرج بالمناصب الإدارية وصولاً إلى استلامه عمادة كلية الفنون الجميلة في دمشق. وتوقف الفيلم عند الدور الوطني والسياسي الذي قام به وأولاه أهمية كبرى لاتقل عن العمل الفني، لإيمانه بأن الإنسان وُجد ليعيش بسلام، فكانت لوحته المؤلفة من ثلاثة أجزاء على أجنحة طائرة الفانتوم التي أسقطها جنودنا الأبطال في حرب تشرين التحريرية خير شاهد على دوره الوطني والإنساني، حينما عُرضت في دار القوميات في موسكو وغدت حكاية شعب، ثم قدمها القائد الخالد حافظ الأسد لشخصيات هامة لإيصال رسالة سورية إلى العالم بأن الفنّ في سورية جزء من منظومة النضال.
ومن الجوانب الفنية بيّن الفيلم إتقان د. على السرميني العمل بتقنية “المينا” التي لا يتقنها إلا قلة من الفنانين على مستوى العالم، ولوحته القدس تعدّ مثالاً على إبداعه بالمينا.
مثّل د. السرميني جسر وصل بين جيل الروّاد والأجيال القادمة، وانتشرت لوحاته في البلاد العربية والعالمية وبقيت حلب مدينته الخالدة تنبض بشرايينه، فعمل على تأسيس كلية الفنون الجميلة والتطبيقية في حلب وتسلم عمادتها، كرّم عالمياً من جهات عدة لكنه كان يردد دائما”أجمل تكريم لي في بلدي” وقبل رحيله كرّمته وزارة الثقافة بدار الأوبرا وفي المركز الثقافي العربي –أبو رمانة- جعل من الفنّ مملكة أبدية فكتب طلابه وأساتذة كلية الفنون الجميلة على باب متحفه”د. علي السرميني ستبقى بيننا” وهكذا انتهى فيلم الأيقونة الذي اعتمد على السرد وتتالي الصور.

النظام الجمالي
الجانب التربوي والتعليمي الأكاديمي شغل حيزاً في محاور حفل التأبين، إذ تطرق وزير الثقافة محمد الأحمد في كلمته إلى دور د. علي السرميني الذي كان معنياً بتطوير التربية والتعليم التشكيليين، وبناء أجيال جديدة من الفنانين قادرة على تمثل واستيعاب أفضل ما أنجزته الحضارة الإنسانية، ومؤهلة لخلق تيارات وحساسيات جديدة في التشكيل السوري، ومعنياً بتنظيم الحركة التشكيلية السورية، ومن الجانب التعليمي إلى عمله الإداري ليصفه الأحمد بالمقاتل الشرس ضد التسيب والفوضى، فكان النظام هدفه ومنشوده، وليس النظام بالمعنى البيروقراطي وإنما النظام بالمعنى الجمالي والفلسفي للكلمة.

التكثيف الغنائي للوحة
ورسم د. سائد سلوم بكلماته صورة د. السرميني وهو ينظر إليه من زجاج غرفة العناية المشددة في مشفى الأسد الجامعي فخال إليه أنه ينادي”فكوا قيودي أريد أن أعود إلى مرسمي لأرسم أكبر لوحة في العالم” في كلمته المؤثرة باسم طلاب الفقيد، التي استحضر فيها ذكرى الأمس حينما كانوا يتجاذبون معه أطراف الهمسات والابتسامات الملونة، ويتطرقون إلى حكايات من التاريخ، وتابع عن القيمة الفنية العالية لمساره الفني باهتمامه بالقيمة الجمالية التعبيرية، وعن التكثيف الغنائي الداخلي للوحته وتناغم ألوانه، ليخلص بقوله”حملت الأمانة بإخلاص.”

الكلية هاجسه
الحديث عن علاقة د. السرميني بكلية الفنون الجميلة كان محور كلمة د. إحسان العرّ باسم كلية الفنون واتحاد الفنانين التشكيليين، قائلاً”كانت هاجسه يسكن فيها وسكنت فيه” مسترجعاً ذكراه في أروقة ومشاغل ومكاتب كلية الفنون الجميلة وتواصله اليومي مع كل فرد فيها، كما تحدث عن حضوره الفني والإنساني من خلال سرد مراحل سيرته الذاتية ونشاطه النقابي، ليتوقف عند الجانب الفني ونتاجه الثّر بالتصوير الزيتي وعمله بالفسيفساء والمينا واللوحة المائية، مما يشير إلى حجم الإبداع الذي قدمه بأسلوبه الواقعي التعبيري، وعن مشاركته بالمعارض المحلية والدولية، وإسهامه الكبير بتأسيس تاريخ الفنّ السوري المعاصر

أبي
ولامست كلمات المخرجة والإعلامية سهير سرميني شغاف القلوب “كم هو موجع رحيلك يا أبي” لتذكرنا بوقع كلمات نزار قباني بقصيدته”أبي” فكيف ذهبت ولا زلت بي” فتحدثت بحنين عن والدها الحنون والفنان صاحب القضية الوطنية مركزة على لوحة البانوراما الجدارية الكبيرة لمدخل مبنى الاتحاد العام للفلاحين التي تعد خير شاهد على حسّه الإنساني والوطني، واقتربت من السنوات الأخيرة التي عاشها في ظل الحرب الإرهابية التي آلمته، وعن حجم الدمار الكبير بمدينته حلب ورغم ذلك أصر على البقاء بأرض الوطن، ولتعلقه الشديد بكلية الفنون الجميلة وبطلابه أوصى بأن تؤول مكتبته بكل ما تحتويه من كتب نفيسة إلى مكتبة كلية الفنون الجميلة بدمشق لمساعدة الطلاب وليكون معهم دائماً.
أما وصيته الأخيرة لأولاده “سهير –سوزان- فراس” ومحبيه، فكانت: “سورية أمانة بأعناقكم”.
وتحية للراحل الكبير تضمن حفل التأبين معرضاً شارك به عدد من الأساتذة والطلاب في كلية الفنون بزوايا وأساليب ومدارس مختلفة، تخللت اللوحات صور الدكتور علي السرميني الباقي في الذاكرة والقلوب.
ملده شويكاني