ثقافةصحيفة البعث

“حارس الفلة البنفسجية”.. القص بلغة الروح

 

الحياة، الحب، الوفاء، الخوف، الحزن، القلق، مفردات لحالات إنسانية تنبض بها المجموعة القصصية “حارس الفلة البنفسجية” الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب للكاتب مفيد عيسى أحمد. وقد عبّر الكاتب في مجموعته هذه عن هواجس وأفكار ربما عاشها هو وربما عاشتها شخصيات أخرى عايشها الكاتب وكان على تماس مباشر معها فدوّنها في نسيج قصصي سلس وممتع بلغة بسيطة واضحة يقدم من خلالها خلاصة تجارب تشبه كثيراً ما نعيشه من تفاصيل، وهذا ما نلمسه في قصة حارس الفلة البنفسجية” التي حملت المجموعة اسمها، والتي تحمل أحداثها انعكاساً لحالات نعيشها وتؤكد أن ما يكتب من أدب ما هو لا تعبير عن أفكار ورؤى تخالج أرواحنا لكننا لا نعيرها اهتماما أو لا نستطيع الإفصاح عنه، فجميعنا في موقف أو لحظة ما نرى أنفسنا حراساً لقناعات وأفكار وقيم أشخاص تلزمنا الحياة وظروفها بالتعاطي معهم، فلا نستطيع أن نظهر قناعتنا بهم وموقفنا الحقيقي منهم.
تضم المجموعة عشر قصص استمد الكاتب مواضيعها وأفكارها من واقعه وبيئته التي يعيش فيها، بوجدانية وروحانية قدّم فيها عبر ذاكرته الحية وخياله النشط حالات إنسانية تنشد الحياة بكل خياراتها وانفعالاتها، حيث تكشف لنا بعض القصص عن شخصيات تفكر بقضايا إنسانية بالغة الأهمية في حياتنا باعتبار البشر كائنات تحب التواصل، بينما نعيش في عالم أخذنا في زحمته وجرجرنا في متاهاته وانشغل كل واحد بحياته الخاصة بعيداً عن الناس والمجتمع مما رسخ سلبية العلاقات الإنسانية.
اتخذ مفيد عيسى أحمد أسلوباً مختلفاً في تناول موضوعاته، فنلحظ التمايز في رؤيته لفن القص، مما يوحي بالهاجس الذي تدور في فلكه قصص المجموعة فبدءاً من قصة “ثلاثة حقول وأربعة براعم” يضع الكاتب يده على جرح أرواحنا التي قتل حلمها أشخاص كانوا بالنسبة لنا أقرب إلى عيوننا من جفونها، فحارس المسرح الذي عاش هاجس التمثيل على خشبته وجسد كل الأدوار التي حلم بها، حوّله الحب الذي تملّكه تجاه الممثلة الصاعدة “قمر” التي شاركته في لحظة عابرة هذا الحلم وساعدها بأن تحقق ذاتها، لكنها تخلت عنه لتكون مع شخص آخر يلبي طموحاتها أكثر، فيحاول أن ينتزعها من قلبه مجسداً دور القاتل الذي يرى أن أداءه لهذا الدور يتحسن مع كل مرة يقتلها فيها: “قمر كانت تنام في الكواليس، يتناهى إليّ صوت تنفسها، لكنها كانت ميتة، ماتت من زمن قريب، ماتت تماماً”.
وترخي الحرب ظلالها على قصص المجموعة فيوثق الكاتب تغير المزاج العام للناس وتحول قناعاتهم ومودتهم لبعضهم إلى كره وحقد رافضين كل ما يخالف مصالحهم، ويبررون لأنفسهم كل شيء حتى القتل وهذا ما نقرؤه في قصة: “مايشبه انعدام الحس” فطبيب الأسنان الذي كان ودوداً مع الجميع وظل مثابراً على دوامه في عيادته، تحول إلى عدو بالنسبة لأهل الحي بحكم التغيرات الجديدة التي طرأت على تفكير الناس وسلوكهم، ويحاولون بما بقي لديهم تجاهه من ود سابق أن يبعدوه عن الحي مؤكدين له عبر اتصال تلقاه أن هناك من ينوي قتله وهنا عاش الطبيب صراعاً بين واجبه ورسالته المهنية والإنسانية وبين خلاص نفسه من موت يحدق به:
“لم ينم الطبيب تلك الليلة، فالصوت جاد، وهو أحس منذ فترة أن كثيراً من العيون تغيّرت، احتدت وكأن حقداً كان مدثراً مخبوءاً بوداعتها الزائفة قد طفح بحدة، صار هناك من ينظر إليه بتوعد، عدة مرات نوى أن يترك عيادته لكن جاره مازال يحتاج للعلاج، جلسة واحدة فقط، ولتكن بعد يومين حسب الموعد وسيغادر الحي”.
في قصة “الغناء بألسنة مبتورة” يشير الكاتب إلى تغير مسار حياة الناس الذين كانوا يقضون سهراتهم على وقع الموسيقا وصوت عبود بربر الذي يغني للحب والحياة، جاءت الحرب لتقلب الأمور رأساً على عقب، إنهم غربان الظلام الذين يفرضون ثقافتهم وتفكيرهم المتطرف، ويعتبرون الغناء محرماً وحالة من الكفر يبعد الناس عن دينهم، ويقتلون كل من يخالف تعليماتهم ويعترض على تصرفاتهم.
“عبود بربر كان يبين كرهه للريح: إنها تبدد الكلمات وتقصف البراعم والزهور، هبوب أهوج يلوي قمم الأشجار، يسرد الحجارة والصخور، الخلاء والبيوت.. في النهاية صمت لدقائق، سنت الأجساد، ثم عاد ليغني تلك الأغنية عن الرجل الذي قطع لسانه، شعرنا أن ألسنتنا جميعها مقطوعة ولم يعد لنا سوى الصمت والحزن”.
في قصة “وجيب الأرض” يرصد الكاتب الفطرة التي يتماهى فيها سكان الصحراء مع الأرض بكل حواسهم فيعرفون كل تفاصيلها، يتنبؤون بما سيحدث كما حصل مع اللواش “ذلك البدوي القادم من الحماد، كان يرصد ما حوله بكل حواسه وبأدقها، ينام كالذئب بعين واحدة، لا يتحدث إلا قليلاً وكأن الكلام يشتت تركيزه.. وعند الفجر غفا اللواش تحت وطأة الإرهاق وهو مضطجع على الأرض ملصقاً أذنه بأديمها.. لم يستمر نومه سوى نصف ساعة، انتهى بقفزة وكأن ثمة من نهره أو وخزه، جلس، نظر حوله ثم عاد وأطبق أذنه على الأرض وقال: هدير مختلط، آليات ديزل، آليتان، عشرة كيلو مترات”.
في قصة “يونس في تونس.. في بحر مالح” تردد العجوز: “يونس في تونس في بحر مالح، في مركب ماله صفات المراكب، تجره صبية من المشارق للمغارب”. ثلاثون عاماً تردد هذه اللازمة التي حفظتها من صغرها عندما كان أبوها يرددها كترنيمة وهو يقرأ تغريبة بني هلال، لم يخطر لها حينها وهي طفلة أنها ستصبح أم يونس وأنه سيضيع في البحر.. ثلاثون عاماً وهي تراقب تغير المكان، كل شيء يتغير، الكثير ممن تعرفهم ذهبوا ممن كانوا يتوقفون أمام منزلها يتبادلون معها الحديث، وكلما ذهب أحدهم تنخمص الحياة ويرتسم حد جديد للذاكرة.
في الأيام الأخيرة كانت العجوز تتفقد الصور المعلقة على الجدران، صور الشهداء الشباب الذين كانوا يغيبون فترة ليعودوا صوراً، تحاول تمييز ملامحهم تبحث في ذاكرتها عن أهلهم وأقربائهم.. كلمتان فقط بقيتا من اللازمة ترددهما وكأنها نسيت ما بقي منهما، “يونس في تونس”.. في وقفاتها الطويلة بدأ يعتريها التعب، وأخذت الملامح التي لا تعرفها تتماهى في سمات وجه يونس، وجه واحد في صور عديدة، قديمة وحديثة.. صمتت العجوز، اللازمة التي رددتها لمدة ثلاثين عاماً ولم تعرف غيرها، لازمة الانتظار والأمل بهتت في ذهنها، كانت تأسياً لم يعد له معنى، لم تعد ترددها، بقي منها اسم يونس فقط، صورته التي تراها معلقة على جدران المدينة بأشكال مختلفة، كأنه عاد.
في قصة “لايطيقون الانتظار” يشير الكاتب إلى الإنسانية والنبل التي بقيت عند بعض الناس من خلال تلك المرأة التي تعمل ممرضة في مشفى، ترى جثة لرجل مهددة بالانتهاك من قبل الكلاب فلم يسمح لها ضميرها بالمغادرة وترك الجثة لوحدها، دون أن تفكر هذه الجثة لمن ومن أي فئة، هل هي من الموالين أم المعارضين، هي رأت فيها حرمة إنسانية من الواجب الحفاظ عليها، رغم الخطر المحدق بها، لم تستطع كبت سؤال غلب صبرها: “منا.. أم منهم؟ وأشارت إلى الجثة”.
لقد أتت شخصيات القصص كلها نابضة بالحياة تعبر عن هواجسها وأحلامها بكل صدق وعفوية، واستطاع الكاتب أن يجعل القارئ يعيش قصصاً وحكايات تعكس بصورة تهكمية عنف الواقع وخشونته، والمتأمل في أسلوب المجموعة، يتحسس فيه البساطة والإيحاء والتكثيف والتركيز والوصف والقدرة على تسلسل الأحداث وترابطها، مشتغلا على التوازي بشكل كلي راسماً الفجوة الهائلة لتسليط الضوء على حجم الهزائم الذي أصابت شخصيات المجموعة، كما أن حضور صوت الكاتب الذي يروي تجارب أشخاص مختلفين بنوازعهم وأفكارهم وما تقع حواسه عليه مع مخاطبته الصورة التخيلية لذاته في لغة تجسد أزمتها في زمن نفسي يمتد للكشف عن الدوافع التي حركت شخوصه وأحاسيسه لتقمص الأدوار على التوالي، جعل مجموعة “حارس الفلة البنفسجية” تتسم بالواقعية الوصفية التي تنقل الواقع راسمة الخط الواصل بين الظاهر والأعماق.
سلوى عباس