دراساتصحيفة البعث

قانون “سيزر” وإرهاب الدولة- الهدف العام

د. نجم الأحمد- أستاذ القانون العام- جامعة دمشق
تمثّل اتفاقية “جنيف” الصادرة زمن عصبة الأمم عام 1937 المحاولة الحكومية الأولى التي تعالج ظاهرة الإرهاب من الناحية القانونية، وقد قصد منها كبح أعمال الإرهاب التي تتضمّن عنصراً دولياً فقط، مكرّسة معظم نصوصها للتركيز على هذا العنصر. وقد وصفت المادة (1) من هذه الاتفاقية أعمال الإرهاب على أنها: “أفعال جرمية موجّهة ضد دولة من الدول، ويقصد بها، أو يراد منها، خلق حالة من الرهبة في أذهان أشخاص معينين، أو مجموعة من الأشخاص، أو الجمهور العام”. وبموجب المادة (2) تلتزم كل دولة متعاقدة عدّ الأفعال الآتية المرتكبة في إقليمها جرائم جنائية إذا وجّهت ضد طرف متعاقد آخر، وإذا انطبقت عليها معايير الإرهاب وفقاً للمادة (1)، وذلك على النحو الآتي:
1- كل فعل مقصود يكون سبباً في موت، أو إلحاق أذى جسدي بالغ، أو فقدان حرية رؤساء الدول، أو أزواجهم، أو أشخاص يتقلّدون مناصب عامة، وذلك حين يكون الفعل موجّهاً ضدهم بصفتهم العامة.
2- إلحاق الضرر عمداً بممتلكات عامة تعود إلى طرف متعاقد آخر.
3- كل فعل مقصود يراد منه تعريض حياة أفراد الجمهور إلى الخطر.
4- كل شروع في ارتكاب إحدى الجرائم المذكورة أعلاه.
5- التعامل بالأسلحة والذخائر بقصد ارتكاب إحدى الجرائم المذكورة أعلاه في أي بلد كان.
وقد بحثت الاتفاقية في تجريم التآمر، والتحريض، والتدخّل في الإرهاب، بالإضافة إلى تكرار الجريمة الدولية، والادعاءات الشخصية بالتعويض. وبحثت أيضاً في موضوع تسليم المجرمين، وإقرار مبدأ “إما أن تسلّم أو تعاقب”، مع بقاء هذا الأمر خاضعاً إلى السلطة التقديرية للدولة.
لكن الاتفاقية لم تدخل حيّز النفاذ لعدم استيفاء النصاب القانوني المطلوب للمصادقة عليها.
وقد حاولت منظّمة الدول الأمريكية عام 1971 وضع مشروع اتفاقية لمحاربة الإرهاب، وقد تضمّن تعريفاً عاماً للإرهاب، لكن المحاولة باءت بالفشل. وفي عام 1972 قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة بقرارها رقم (3034) إنشاء لجنة خاصة بالإرهاب الدولي بهدف فحص هذا الموضوع من النواحي كافة، لكن اللجنة لم تتمكّن من تقديم تعريف للإرهاب في تقاريرها المقدّمة عامي 1973 و1979. وقد جاء تقرير اللجنة الخاصة عام 1979 خالياً من تقديم أي تعريف للإرهاب، واقتصر الأمر على صدور قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1979 يدعو الدول الأعضاء إلى الوفاء بالتزاماتها وفقاً للقانون الدولي لجهة الامتناع عن التنظيم، أو التشجيع، أو المساعدة، أو الاشتراك في أعمالٍ إرهابية ضد دولة أخرى.
وفي عام 1985 أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم (61) الذي دعت فيه إلى تجريم الأعمال الإرهابية بصرف النظر عن بواعثها. أما في عام 1987 فقد أصدرت القرار رقم (159) الذي دعت من خلاله الأمين العام للأمم المتحدة إلى إعداد تقرير حول إمكانية عقد مؤتمر دولي لتعريف الإرهاب، والتمييز بينه وبين النضال والكفاح بغية التحرير الوطني، وقد تضمّنت تقارير الأمين العام دعم عدد من التعريفات المتعلّقة بالإرهاب، وتمت الدعوة إلى عقد مؤتمر دولي لهذه الغاية.
كما أن لجنة القانون الدولي كانت قد بذلت من جانبها جهوداً كبيرة في خضم وضع تعريف للإرهاب. وقد جاء النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية خالياً من التعرّض إلى جريمة الإرهاب، وهذا ما حدث في المحكمة الجنائية الدولية حول “يوغسلافيا”. أما النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية حول “رواندا” فقد نصّ في المادة (4) على الأعمال الإرهابية التي تدخل في اختصاص المحكمة من دون وضع تعريف للإرهاب.
وفي عام 1996 أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الحادية والخمسين القرار رقم (210) المتضمّن إنشاء لجنة خاصة من أجل وضع مجموعة من الوثائق الدولية المتعلّقة بالإرهاب. وقد حاولت اللجنة المحدثة وضع اتفاقية عامة بشأن الإرهاب الدولي، ولكن لم يتم الوصول إلى توافق يسمح بوضع اتفاقية عامة بهذا الخصوص. وخلال الاجتماعات التي نظّمتها الأمم المتحدة للخبراء الإقليميين في “فيينا” في الفترة 14-18/3/1988 جرى التوصّل إلى أن الباعث على الإرهاب أمر سياسي دائماً، كما أنه يقتصر على النطاق الدولي، ومن الممكن أن يقترف الفعل من فرد، أو دولة.
يضاف إلى المعاهدات والبروتوكولات الدولية المشار إليها عدد من الاتفاقيات التي تمت على الصعيد الإقليمي، ومثالها الاتفاقية الإقليمية لجنوب آسيا حول مكافحة الإرهاب عام 1997، والاتفاقية العربية لمكافحة الإرهاب عام 1998، واتفاقية منظّمة المؤتمر الإسلامي حول مكافحة الإرهاب الدولي عام 1999، واتفاقية منظّمة الوحدة الإفريقية عام 1999، واتفاقية “شنغهاي” عام 2001.
كما أصدر الاتحاد الأوربي عام 2002 قراراً وضع من خلاله الإطار العام لمكافحة الإرهاب، وقد تضمّنت المادة (1) منه تعريفاً مفصلاً لجرائم الإرهاب التي طالبت الدول الأعضاء تضمينها القوانين الوطنية لدول الاتحاد الأوربي. وقد حدد القرار الأعمال الإرهابية التي ينطبق عليها هذا الوصف، وطالب الدول الأعضاء باتخاذ التدابير اللازمة لتجريم هذه الأعمال وفقاً للقوانين الوطنية، نظراً إلى أن هذه الجرائم من شأنها إلحاق الضرر بالدول والمنظّمات الدولية متى ارتكبت بقصد إحداث حالة من الرعب الجسيم لدى السكان، أو إكراه حكومة أو منظّمة دولية على القيام بعمل، أو الامتناع عنه، أو إحداث انقلاب، أو تدمير النظام السياسي أو الدستوري أو الاقتصادي أو الاجتماعي للدولة، أو لمنظّمة دولية.
وعلى وجه العموم يمكن القول إن ممارسات بعض الدول كالولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، بالإضافة إلى (الكيان الإسرائيلي) قد جعلت كل محاولة لوضع تعريف للإرهاب أمراً غير ممكن، فوفقاً لممارسة الولايات المتحدة يعني الإرهاب على سبيل المثال أي عنف مثير للرهبة يرتكب من غير مواطني الولايات المتحدة، أو يرتكب ضد مواطني الولايات المتحدة، أو ضد أجنبي يقيم فيها بشكلٍ دائم.
من هنا تتبدّى لنا الغاية من ذلك، أي الغاية من وضع عدم تعريف محدد ومتفق عليه للإرهاب، سواء الذي يمارس من قبل الأفراد، أو من قبل دولة ما في مواجهة دولة أو دول أخرى، أو كيانات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية.
ولكن على الرغم من ذلك فإن عدم وضع تعريف للإرهاب لا يعني عدم إمكانية توصيفه، أو بيان ماهيته، ومضمونه، وأدواته، ومحلّه، والدوافع الرامية إليه.
وعليه يمكن القول إن الإرهاب جريمة مستقلّة بحد ذاتها بصرف النظر عن جنسية الفاعل، ومن ثم فإنه لا يمكن الاحتجاج بمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، أو مبدأ “لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص القانون”، والذي يشكّل قاعدة دستورية وقاعدة أساسية من قواعد القانون الجنائي، سواء القانون الجنائي الوطني أو الدولي. كما أن المتهمين باقتراف أي فعل أو أفعال محظورة بحسبانها أعمالاً إرهابية يكونون على علم بجميع العناصر المادية والمعنوية التي تقوم عليها الجريمة، أي استعمال وسائل غير مشروعة بهدف خلق حالة من الرهبة، ما يعرض الجمهور إلى الخطر، ومن ثم ليس بإمكانهم التذرّع بجهلهم بجزئيات الجريمة، كما لا يمكنهم الاحتجاج بوجود غموض أو إبهام في النص القانوني الذي يحظرها ويعاقب عليها.
كما أن جوهر جريمة الإرهاب هو الإقدام على ارتكاب فعل محظور بقصد خلق حالة من الخوف أو الرهبة في ذهن الجمهور، وهذه المسألة من مسائل الواقع والقانون.
ومن المتفق عليه أن جريمة الإرهاب جناية خطيرة. وقد تكون هذه الجريمة جريمة عادية إذا كان الدافع على ارتكابها دافعاً شخصياً، كما يمكن أن تكون جريمة سياسية إذا كان الدافع سياسياً أو إيديولوجياً، مع أن الجرم غالباً ما تحركه بواعث سياسية.
وفي دولة كالولايات المتحدة نجد أن الإرهاب لا يعدّ جريمة مستقلة بحدّ ذاتها في التشريع الاتحادي، ويقول أحد الكتاّب الأمريكيين ويدعى “فريدلاندر” في ذلك: “رغم مضي عقدين من الزمن … فإنه لا يوجد حتى الآن تعريف متفق عليه للإرهاب يشكلٍ عام، سواء على المستوى الدولي أو على المستوى الوطني، وبين الخبراء القانونيين والموظّفين الحكوميين، فالإرهاب يشمل جرائم عادية، وسيكون عنصر التجريم هذا كافياً للإدانة في أي مجتمع متحضّر، لكن تشريع الولايات المتحدة غالباً ما يتطلّب تعاريف لتطبيق نصوصه، والإرهاب ليس استثناءً من هذه القاعدة”.
وبمقتضى ما تقدم، وإزاء الافتقار إلى وجود تعريف محدد المعالم على الصعيد الدولي نجد أن الولايات المتحدة جعلت من نفسها الحكم والخصم في غالب الأحيان إزاء ما يعدّ من قبيل الإرهاب الدولي، أو لا يعدّ كذلك. ومن نافلة القول هنا أنه ووفقاً لهذا التصوّر لا ترى الولايات المتحدة في أي من تصرّفات (الكيان الإسرائيلي) جرائم إرهابية، سواء اشتملت على القتل الجماعي أو الفردي، بما في ذلك قتل الشيوخ والنساء والأطفال، أو احتلال أراضي الغير، أو إقامة المستوطنات، أو الاعتقال التعسّفي… بينما مقاومة أي من هذه الأعمال من قبل المجني عليه أو الضحية هو في نظرها من قبيل الأعمال الإرهابية.
وغموض الرؤية أو التعريف في الإطار العام والشامل يمكّن دولة مثل الولايات المتحدة من اعتماد معايير مزدوجة إزاء حالات متشابهة في مقدماتها ونتائجها، وكذلك البناء على أسس واهية، أو غير حقيقية، وحتى متناقضة، طالما أن ذلك يخدم الهدف النهائي الذي تسعى إليه. وخير دليل على ما نقول هو الحالة المتعلّقة بما يسمّى قانون “سيزر” أو “قيصر” الذي يخدم الولايات المتحدة فيما تصبو إليه من تحقيق أهداف سياسية بحتة عبر تضييق الخناق على الشعب السوري، والإمعان في زيادة معاناته التي كان السبب الأساسي فيها دعم الولايات المتحدة للتنظيمات الإرهابية المسلّحة طيلة تسع سنوات، والتضييق على الدول التي وقفت إلى جانب الدولة السورية…
وفيما يخص التناقض الفاضح ما أعلنته الولايات المتحدة من أن السبب في سنّ هذا القانون هو “دعم المدنيين في سورية ممن يتعرضون إلى التعذيب”، وهذه مفارقة عجيبة، إذ كيف يمكن للقانون الذي سيكون المدنيون هم الشريحة الأكثر استهدافاً بموجبه تحقيق الحماية المزعومة لهم؟ وأين الربط فيما طرح من افتراض زائف، وبين معاقبة كل من يقدّم دعماً اقتصادياً إلى الشعب السوري المحاصر، أو من يريد مساعدة هذا الشعب على إعادة إعمار ما كان الإرهاب سبباً في تدميره، حتى وإن جاءت المساعدة مجانية بالمطلق؟
وفي سياق متصل كيف لدولة أن تصدر تشريعاً وطنياً لكنه يتناول دولاً وأشخاصاً وكيانات سياسية خارج حدودها الإقليمية، وليس هناك من مسوّغ واحد يعطيها سلطة إصدار مثل هذا القانون؟ وهل باتت القوانين تبنى على الخداع والادعاءات الكاذبة والمفبركة. فمن أطلق عليه اسم “قيصر” وجرى تصويره على أنه ضابط منشق حمل معه آلاف الصور لضحايا ادعى أنهم قضوا نتيجة التعذيب لم يكن سوى عنصر فار من الخدمة العسكرية، وهو يعمل في مكان
لا يخوّله إمكانية التقاط الصور بالطريقة التي يسردها والتي لا يمكن لعاقل تصديقها… والأمر لا يعدو رغبة شخص في الحصول على المال والمنفعة، ورغبة دولة لا ترى في أي أمر من الأمور إلا ما يحلو لها تصويره على أنه “حقيقة مجردة”، سواء كان الأمر كذلك بالفعل أم لم يكن. ويبقى سؤال واحد قبل أن نختم كلامنا لهذا اليوم سوف يجعل الحقيقة واضحة أمامنا تماماً مؤداه أن الضحايا ممن تم الزعم أنهم قضوا تحت التعذيب، وهم من السوريين كما جرى الادعاء، أفلا يفترض وقد جرى تصويرهم على أنهم بالآلاف ذكر اسم شخص واحد فقط منهم على الأقل؟
أما فيما يخص الجوانب القانونية والفنيّة والسياسية التي احتواها هذا القانون الذي صادق عليه الكونغرس الأمريكي بمجلسيه (النواب- الشيوخ)، واقترن بمصادقة الرئيس الأمريكي عليه، وكيفية مواجهته والتصدي له… فإنه سيكون محور دراستنا اللاحقة.