إلـى الســـــائرين وراء الســــــراب!
علي اليوسف
السائرون اليوم في ركب الغرب وربيبته الأساسية في المنطقة إسرائيل سوف يواجهون حائطاً مسدوداً، وسوف يعلمون عاجلاً أو آجلاً أنهم سائرون وراء سراب. نحن اليوم أمام معادلات جديدة تؤسس لعالم مستقبلي لا مكان فيه للابتزاز أو الهيمنة، وما يجري في عالم اليوم جدير بوقفة لمقارنة ما يحدث بين المهيمن القابع على عرش القطبية والدول التي باتت من أشد المنافسين هذه الأيام، كما أنه من الضرورة بمكان أن تتم دراسة الأعراض التي أدت إلى ظهور الأحداث الارتدادية والانعكاسية مقارنة مع الأحداث الفعلية التي تصيغ أسس عالم جديد واستراتيجيات وشراكات جوهرية والتي سيكون لها دورها الفعال في تشكيل عالم المستقبل.
ما يجري في الغرب اليوم من حوارات سواء ضمن النظام السياسي الواحد كما يجري في الولايات المتحدة مثلاً، أو عبر المحيط – العلاقة بين أمريكا وأوروبا- أو علاقتها بالعالم من الصين إلى فنزويلا وإيران والخليج والكيان الصهيوني، كلها أعراض لتدهور القوة العظمى التي كانت بالأمس القريب تعتبر نموذجاً للعالم، والأهم من ذلك أنها اليوم آخذة في التفكك السياسي والأخلاقي، كما يرى الجميع مؤشرات ضعفها الاقتصادي المقبل والناجم عن التوسع العسكري الاستعماري، مقابل التفوق الحتمي الذي تؤسس له الصين وبلدان أخرى بهدوء وذكاء شديدين. والشيء الوحيد المتبقي لهذه القوة العظمى هو عامل القوة المتمثل بتفوقها العسكري الذي يثقل كاهلها بإنفاق موارد هائلة من دون مردود يذكر، إلا ابتزاز النظام السعودي ودول الخليج واستجرار أموالهما. لكن الشيء الأكيد هو أن هذا التفوق لن تتمكن من استثماره لتغيير موازين القوى بعد اليوم ولاسيما أن معظم شعوب الأرض أتقنت أدوات تحصين الذات ورفع مناعة بلدانها في وجه أسلوب الاختراق اللاأخلاقي الذي اتبعته هذه القوة العظمى منهجاً وسبيلاً لتحقيق أهدافها بأقل الخسائر الممكنة. أما الاتحاد الأوروبي الذي كان ينظر إليه على أنه ثاني قوة سياسية واقتصادية بعد الولايات المتحدة، والذي شكلت شراكته مع الولايات المتحدة فرصة لهما لنهب ثروات شعوب الدول النامية تحت مسميات الحرية والديمقراطية ونشر أساليب الحكم الليبرالية في أفريقيا وآسيا، فهو آخذ في التآكل من الداخل هو الآخر.
إن العالم الغربي دخل في مرحلة أفول تدريجية حقيقية، وإن كل محاولات ابتزازه لأموال الآخرين وثرواتهم تأتي في محاولة يائسة لإنقاذ نظامه، ومن هنا أيضاً تأتي الحرب الخاسرة التي يشنها ترامب مع الصين في المجالات التقنية والاقتصادية التي يمكن إدراجها في باب المكابرة والمحاولات اليائسة، بدلاً من اعتبارها جدية أو أنها قد تؤدي إلى نتائج غير متوقعة. في مقابل هذه المظاهر الحقيقية لأفول القوة الغربية، يتم تأسيس استراتيجيات وآليات عمل وشراكات مرشحة من دون شك ليس لبزوغ حقبة جديدة بين روسيا والصين فقط، وإنّما لولادة عالم جديد مختلف نوعياً عن العالم الذي شهده العالم منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن الواحد والعشرين. والقمة الروسية التي عقدت أخيراً في روسيا وتبعها أيضاً انعقاد “منتدى سان بطرسبرغ الاقتصادي الدولي لعام 2019، والذي حضره الزعيم الصيني أيضاً، لم تكن ذات أهمية للبلدين المعنيين فقط وإنّما لمستقبل البشرية.
إن لغة التفاهم بين الرئيسين بوتين وشي جينبنع، والتعبير غير المسبوق عن الصداقة بين الرئيسين والمستوى الهام والمتميز الذي وصلت إليه العلاقات بين البلدين تجاوزت مؤشراته روسيا والصين، ومن يقرأ بين السطور وما تم إنجازه فعلاً، يدرك أن المرحلة الجديدة لا تعني روسيا والصين، وإنما هي مرحلة جديدة للعالم بأسره. والمدركون لما هو قادم في المستقبل في العالم هم هؤلاء الذين يلتقطون هذا المؤشر ويستغلون هذه اللحظة لينضموا إلى شراكة استراتيجية سوف تغيّر وجه وطبيعة العالم في العقدين المقبلين. فقد وقّعت شركة “هواوي” الصينية التي تخوض الولايات المتحدة ضدها حرباً شرسة، اتفاقية مع شركة “MTS” الروسية لتطوير وإطلاق شبكات الجيل الخامس من الانترنت “G5” في روسيا وقد جرى توقيع الاتفاقية في حفل حضره الرئيسان. كما وافق صندوق الاستثمارات المباشرة الروسي وشركة الاستثمار الصينية على استثمار مليار دولار في إنشاء صندوق ابتكاري علمي وتقني روسي- صيني سيساعد على توسيع نطاق التعاون بين البلدين، كما ستسهم أنشطته بشكل كبير في تطوير وتنفيذ أحدث التقنيات والحلول لتطوير اقتصادات العالم وتعزيز الشراكة بين البلدين.
منذ عام 2012 حين أنشئ هذا الصندوق تم استثمار أكثر من 7 مليارات دولار في أكثر من 30 مشروعاً. كما أكد سفير روسيا الاتحادية لدى بكين اندريه دينسوف أن الحرب التجارية الأميركية ضد الصين تجعل مسألة الانتقال إلى التعامل بالعملات الوطنية بين روسيا والصين أكثر إلحاحاً، حين تحين تلك الساعة وتبدأ الصين وروسيا بالتعامل بالعملات المحلية بدلاً من الدولار، سيكون لهذا عواقب وخيمة على الدولار.
وفي غمرة كل هذه الخطوات الأساسية والمهمة جداً، أرسلت الصين قمرين صناعيين للتجارب التكنولوجية وخمسة أقمار صناعية تجارية إلى الفضاء. ويعد الصاروخ الحامل “المسيرة الطويلة 11” الذي طورته الأكاديمية الصينية لتكنولوجيا إطلاق المركبات، الصاروخ الوحيد الذي يستخدم الوقود الدفعي الصلب ويمكنه أخذ أقمار صناعية متعددة إلى المدار في الوقت نفسه. إذاً ما تقوم به الصين سواء لوحدها أو بالشراكة مع روسيا، هو أن تعمل على ردم هوة الاختراع والابتكار التي تفصلها عن الولايات المتحدة، وتؤسس لآليات عمل واختراعات تقنية وتكنولوجية تجعل من الإبداع هدفاً أساسياً، إذ لا تقدم من دون اختراع وابتكار كما قال الرئيس الصيني في قمة “حزام واحد طريق واحد” التي عقدت في بكين في نيسان الماضي.
إذاً، العالم اليوم أمام خيار لا ثاني له هو الشراكات والصداقة والتعاون واحترام استقلال وسيادة الدول، ولا شك أن هذا العالم يعيش مرحلة مهمة من التغيرات، ورغم صعوبتها فهي تشكل فرصة لمن يبحث أن يكون عنصراً فاعلاً في هذا العالم الجديد الذي نشهد مخاض ولادته.