شاكر مصطفى قامة من قامة الفكر والأدب
حين تسمع صوته الخافت الخجول في حديث إذاعي أو محاضرة مسائية، وحين تقرأ كتبه الصغيرة المنمنمة تظن أنك أمام مختص في الفلسفة أو الأدب، ولكنك تسأل فيبتسمون ويقولون: “شاكر”؟ إنه مدرس تاريخ.. مفكر عذب ورقيق يقدم لك أضخم المسائل الفكرية وأعصاها على الإفهام بلغة بسيطة حلوة رشيقة، وتجدك حائراً متسائلاً: “هل هذا الذي أسمع وأقرأ هو أديب أم مؤرخ”؟، ولأنه قامة من قامات في الفكر والأدب والحياة، ختم مدير الندوة د.إسماعيل مروة الندوة الشهرية لهذا العام في مكتبة الأسد الوطنية تحت عنوان “شاكر مصطفى المؤرخ والأديب”.
المؤرخ الموسوعة
غدا شاكر مصطفى من أبرز فرسان العصر الحديث علمياً وإنسانياً، بإصراره على التزام الجانب الإنساني، ويتلمس القارئ مؤلفاته الإنسانية فيجد كراهيته للظلم والظالم، وقد تفرد وحده بالمجاهرة من بين أقرانه، وعنه كمؤرخ قال د.محمود عامر: تميز شاكر مصطفى بعشقه للتاريخ، ولهذا غاص في دهاليزه يقرأ الحوادث متلمساً منها نبض الإنسانية من خلال الوقائع والأحداث دون أن ينسيه عشقه للتاريخ عن الكلمة المرهفة، ولعل أكثر إنجازاته أهميةً هي مشروعه الضخم المعنون بـ”التاريخ العربي والمؤرخون”، الذي صدر الجزء الأول منه عام 1978م، هذا الكتاب الذي يجعلنا نسميه مؤرخ المؤرخين بحق، حيث تظهر أهمية هذا الكتاب في عدة سمات لعله الوحيد الذي تفرد ببعضها، فهو موسوعة تكاد تكون شاملة، أتى فيها على المؤرخين والمتحدثين في التاريخ العربي الإسلامي، وعدد هائل من المؤلفات التي أناطت هذا المجال بعنايتها، ويُعد كتابه من أكثر مؤلفاته أهميةً، بذل جهداً كبيراً في كتابته ودقة معلوماته، وبإصداره جسد أن التاريخ ذاكرة الشعوب، وأنه مؤرخ المؤرخين بجدارة لا لُبس فيها، وقد اتسم مؤلفه بسمات عدة تفّرَد بها، فهو موسوعة تكاد تكون شاملةً، أشار فيها بأدب جم وأخلاقية إلى عالم على من سبقه من المؤرخين والمتحدّثين في التاريخ العربي الإسلامي، وكم كبير من المؤلفات التي حملت جهد تدوين الماضي، وسوّغ مؤرخنا دوافع القيام بعمله الجاد والأصيل بأسباب عدة: دور العرب في ولادة علم التاريخ وتطوره ونمائه، وإسهامات العرب الجليلة والمشرّفة لمؤلفاتهم التاريخية الضخمة والهائلة التي قدموها للعالم، وحملِهُم التاريخَ وهمومَه والرحمةَ وثقلها أينما حلوا وأينما رحلوا.
منذ زمن ليس ببعيدٍ كانت لنا صلات حضارية وثقافية واجتماعية بين المجتمع العربي والغربي وأخذت طوابع الصراع العسكري كما أخذت في غير حين طوابع الحوار الثقافي والحضاري، وعن شاكر مصطفى وثقافة الغرب تحدث د.راتب سكر: انتمى شاكر مصطفى إلى جيل من الأدباء والمثقفين العرب والسوريين الذين حملوا على مناكبهم مهمة جليلة في الحوار الثقافي مع الغرب فهو من جيل نزار قباني وسليمان العيسى وصدقي إسماعيل وكوكبة من الأعلام الذين عبروا عن هذا العامل المؤثر في مسار كل منه، نستطيع التوقف على عتبات حوار شاكر مصطفى الثقافي والحضاري مع الغرب عبر نوافذ متنوعة في مقدمتها الصلة التاريخية للعرب عبر الكتب التي كتبها عن التاريخ العربي، وفي مقدمتها الدراسة التاريخية عن الأندلس، فهي كانت من أبرز محطات اللقاء والحوار بين العرب وإخوانهم الإسبان والبرتغال، وأيضاً نجده في أطروحة الدكتوراه التي حازها من جامعة جنيف وكتبها باللغة الفرنسية حيث يخص موضوع تاريخ السلجوقي الأيوبي الذي يعتبر جزءا من المواجهة الحضارية في زمن ما يسمى بالحروب الصليبية، غير أن الرجل في دراسته للتاريخ العربي القديم كان يدرك أن الحوار الثقافي والعلمي العربي الأوروبي كان العرب فيه هم المصدر الثقافي للغرب، ومن أبرز كتبه كتاب صدر عام 1958 بعنوان “محاضرات في القصة السورية حتى الحرب العالمية الثانية” وهو كتاب رائد في بابه ويعد الأشمل في هذا المضمار، وقد ناقش الفكرة التي ما تزال حتى أيامنا، والتي تدور حول الرواية والقصة، هل هما فنانان وردا إلينا عبر مؤثرات الغرب، أم هما فنانان عربيان خالصان، وقد ذهب الرجل إلى موقف وسطي وقال ليستا دخيلتين على تراثنا وأدبنا والقصة ليست جديدة في الأدب العربي، والجديد فيها اليوم والدخيل أيضاً هو هذا النهج الغربي في العرض والأداء، ونحن حقاً اقتبسناه مع السترة والبنطال، هو يعترف صراحة بأننا اقتبسنا هذا النهج الغربي في بناء السرد القصصي.
كان لشاكر مصطفى من الفضائل العديد وعلم يرافقه تواضع العلماء، أمور استقاها المحاضر مما قرأه من كتبه ومما كتب عنه آخرون، فأورد د.محمد شفيق بيطار عدداً من الشهادات قالها عنه مجموعة من محبيه، حيث قال الأديب عصام الحلبي في مطلع كتابه: جمع مصطفى من الصفات الجليلة غزارة العلم وصدق العقيدة ونبل المقصد والوطنية الحقيقية الصادقة، مع تواضع العالم الحق في هذا كله والترفع عن صغائر الأمور.
وكتب د.محمد الرميحي رئيس تحرير مجلة العربي عن كتاب شاكر مصطفى “تاريخنا وبقايا صور” وهو مجموعة مقالات كتبها في مجلة قال: ما أمتع أن تقرأ لشاكر مصطفى، بغير لقب لأن الناس ليست بالألقاب، ود.شاكر مصطفى لم يضع لقب “الدكتور” على أي من كتبه، وهذا من أدلة تواضعه، فبعض الكتاب عندي لهم طابع تخصصي، فهذا فلسفي وذاك سياسي وآخر اجتماعي ورابع علمي وغيره تاريخي أما حين تقرأ لشاكر مصطفى فتجده كل أولئك جميعاً.
أما نزار قباني صديقه الأثير، الذي كتب الكلمة الأولى في كتابه الأول “بيني وبينك” وجدت فيه من مراسلة نزار قباني له من خلال المقدمة التي كتبها لم يسميها نزار مقدمة بل دعاها أغنية لشاكر مصطفى يقول فيها: أفتكر وأنا أدير نقطة هنا وفاصلة هناك، ما جدوى باب السنديان العتيق والجنينة على مبعدة خطوتين، ما أسعدني لو تجاوزني الناس، لو تجاوزوا الباب الخشبي المتكئ على مفاصله إلى فسقية تتغرغر بأغنية إلى مدة عتابة بدأت منذ كان الشوق في بلادي ولم ينته بعد، ما أسعدني لو دفعت الباب ومشيت وحدك إلى الكرم لا تضيع أبداً لا تضيع أحداً.
رؤية نقدية
تناول د.اسماعيل مروة الرؤية النقدية عند د. مصطفى في جوانب عدة، فكانت البداية مع النقد الذاتي: مع أن هذا المصطلح فقد بريقه لكثرة استخدامه من الطبقات السياسية والفكرية وحتى على صعيد الأفراد، أما شاكر مصطفى فهو من طينة أخرى، ينظر إلى نفسه بريبة، وشاكر يعمل على نقد ذاته نقداً قاسياً، وكأنه يسكنها ولا يهمزها، لتهدأ، وفي معرض نقدي لذاته قبل الآخرين، نجد عباراته تهرب من الوعظ بعد أن تقدمت باستحياء، فهو قارئ لا يعرف غير التواضع ولا يتقدم ليكون موجهاً أو ناقداً أو واعظاً.
وفي النقد الفكري والسياسي هناك دراستين له عن حركة الوجودية الفكرية، وهو باحث متمكن عاش في باريس، التقى بالوجوديين الفرنسيين وحاورهم واستمع إليهم ولكنه لم يعالج الوجودية كمولود حديث في البيئة الغربية، بل عالج مصطلح الوجود ووجوده في الحضارات المختلفة حتى وصل إلى وقتنا الراهن، فكان نقده علمياً إذ تناول مفهوم الفكر الوجودي، وأهم مفكري الوجودية وصراعها لتأخذ مكانتها بين المذاهب المعاصرة، ومرتكزات الفكر الوجودي.
ولا يأخذ شاكر مصطفى الناقد التاريخي الخبر الوارد في كتب التاريخ الكبرى على حاله، ولا يتعامل معه تعاملاً مقدساً لأنه جاء عن مؤرخين في مراحل سابقة، والأكثر أهمية أنه لا يبني عليه ما يوافق هواه السياسي والقومي ليتخذه ذريعة في وجه الآخرين.
قد تكون آثار النقد الأدبي أكثر ظهوراً وبروزاً وخاصة من خلال رصده للقصة في سورية عبر الكتاب الرائد الذي أصدر الجزء الأول منه، إن هذا اللون الأدبي “القصص” رغم ما قد نزعم له من جذور في أدبنا التليد، غربي الينابيع، حديث البراعم، وفي الغرب آداب شتى فيها للقصة مذاهب، وقد تدفق تأثيرها جميعاً فيناً آداباً ومذاهب في وقت معاً.
عُلا أحمد