شكّكَ أحبّ إليّ من يقيني
هل حقّاً أنّ لكلّ إنسان من اسمه نصيب كما قالت العرب يوماً؟، وأنّ كل شيء مكتوب منذ الأزل وإلى الأزل، أم أنّ المسألة لا تتعدّى الرّبط الميتافيزيقي أو الفطري “الحدسي” السّاذج بين الحدث ونتائجه، بين الظاهرة وتجلّياتها؟. إلى متى ستظلّ السلبيّة المرعبة هي ما يميّز آليّة تفكير الذّهنية العربيّة الماضويّة، التي تنسجُ عبر متخيّلها الذّاتي ربطاً عجيباً للمقدّمات بالنتائج؟ ربطاً تهيمن فيه الذّات على الموضوع هيمنة مطلقة. أما حان الوقت للشّكّ الإيجابي بالمنقول والموروث والمستنسخ، والبديهي؟! سأل “شعبة، أيّوب السّختياني عن حديث موضوع، قال: أشكّ فيه، فقال: شكّكَ أحبُّ إليّ من يقيني”، وقيل “لرقبة بن مصقلة” ما أكثر شكّكَ! قال: محاماة عن اليقين. ثمّ ما هو اليقين، وما الحقيقة المطلقة، في زمن التغيّرات الكبرى وكسر الثّوابت؟ أم أنّ الأمر مجرّد حقائق نسبيّة تتقاطع في مفاصل وتتنافر في أخرى، هازئة بالحتميات الميكانيكيّة التي طرحتها النظريّات الشموليّة كأجوبة نهائيّة لكلّ شيء؟ وحتى في القضايا التي كانت تبدو علميّة وتؤيدها العلوم الوضعيّة والتصوّرات الدينيّة تكشّفت عن سذاجةٍ مخجلة، حيث رُفضتْ كرويّة الأرض، وأنّها تدور حول الشمس وحول نفسها، وظنّ الإنسان أنّها محور الكون، وأنّه الكائن الوحيد في الوجود، وقد ظل هذا التصوّر الذي يزعم العلميّة مسيطراً لمدة طويلة، حتى أتت حقيقة نسبيّة أخرى، نتيجة لتوسع المعارف والاكتشافات، ليتضح أنّها مجرّد كويكب صغير من مجرّة هائلة تحتوي الكثير من الكواكب في كونٍ لا نهائي تملؤه المجرّات. ألا تشبه بعض هذه التصوّرات، طريقة “ابن الرومي النفسيّة، المغرقة في الذّاتيّة، حين ربط بتهيّؤات ذهنيّة عاطفيّة، بين جزمة على جانبي الطريق أثناء عبوره، وهي على شكل حرف “لا” وبين شجرة “تمر” قريبة منها، ليستنتج بأنّ هناك من يحذّره بعدم المرور من تلك الطريق؟! ففسّرها بعبارة تبدو منطقيّة “لا تمرّ”. وهو المشهور بجبنه وتطيّره كما قِيل. ماذا لو مرّ شخص أجنبي لا يعرف العربيّة، هل كان الخطر سيطبق عليه مثلاً؟!. كلّنا يعرف أنّ هناك الكثير ممّن تقلقه تأويلات بعض الأرقام المفردة أو المزدوجة، ويبني خططه اليوميّة تبعاً لذلك. وثمّة من يرى بورقة اليانصيب أملاً أكيداً سيحقّقه، وذلك بربط بعض أرقامها بتاريخ ميلاده مثلاً. والغريب أنّ الملايين من سحبة اليانصيب يشعرون بنفس شعوره هذا!، وكذلك في الحروب كان القادة العسكريّون يستشيرون العرّافين والمنجّمين حول حظوظهم في الانتصارات من عدمها. ويستبشرون بنوع من أنواع الطيور دون غيره ويلغون بعض خططهم الحربيّة لو تراءى لهم الغراب محلّقاً على مقربة من قطعهم القتاليّة!.
عوداً على بدء، هناك من يرى بالأسماء الشخصيّة، مطابقة مع سلوك أصحابها شرّاً أو خيراً، فيقبل عليها أو يدبر عنها، تقول سرديّة تاريخيّة لطيفة في كتاب “العقد الفريد” لابن عبد ربه الأندلسي: بأنّ الخليفة الراشدي “عمر بن الخطاب” سأل رجلاً أراد أن يستعين به على عمل، عن اسمه واسم أبيه، فقال له: ظالم بن سراقة، فقال: تظلمُ أنتَ ويسرقُ أبوك! وكان هذا الأمر القشّة التي قصمتْ ظهر البعير كما يقال، حيث لم يستعن به الخليفة في شيء .
وأقبل آخر إليه، فقال له ما اسمك؟ قال: شهاب ابن حرقة. قال: ممّن؟ قال: من أهل حرّة النّار. قال: وأين مسكنك؟ قال: بذاتِ لظى. قال: اذهب فإن أهلك قد احترقوا .
وتطيّرت العرب من “الغراب” الطائر المسكين الذي لا يثير التشاؤم والقلق في ثقافة شعوبٍ أخرى، وذلك لربط اسمه بالغربة، وقبح صوته، وكذلك لأنّه لم يعد بعد إرساله من قبل النبي “نوح” حين عمّ الطوفان الأرض، بينما عادت الحمامة وبمنقارها غصن زيتون، مع أنّ للغراب في الرواية التاريخيّة والمخيال الشّعبيّ قصّة ذات مدلولات إيجابيّة، لكنّها لم تشفع للطائر الأسود الرّيش، وهي أنّه علّم الإنسان طريقة الدفن للقتيل كما قِيل. يقول الشاعر “أبو الشّيص”:
أشاقكَ والليلُ ملقِي الجِران
غرابٌ ينوح على غصن بان
وفي نعبات الغراب اغترابٌ
وفي البانِ بَينٌ بعيدُ التّداني
ولشاعر آخر قول في التطيّر من كلمة “السّفرجل” يقول :
أهدى إليه سفرجلاً فتطيّرا
منه فظلّ مفكراً مستعبرا
خوف الفراق لأنّ شطر هجائه
سفرٌ وحقّ له بأن يتطيّرا
ولآخر يسير على نفس منوال سلفيه، متطيّراً من كلمة “السّوسن” يقول:
يا ذا الذي أهدى لنا السّوسنا
ما كنتَ في إهدائه محسنا
شطرُ اسمه سوءٌ فقد سُؤتني
يا ليت أنّي لم أرَ السّوسنا
نهاية لا يسعنا سوى القول بأنّ الذّهنيّة الاستهلاكيّة المستقيلة من دورها المعرفي كإنتاج وإعادة إنتاج، المؤمنة بالسحر والتّنجيم والعرافة وقراءة الكفّ والفنجان واليانصيب ستظلّ التربة الخصبة لنمو كلّ أنواع الفكر النّكوصي، والمستلَب، والمهزوم .
أوس أحمد أسعد