وقفة مع التهافت الكبير على التجارة
لعقود مضت كان وجود المحلات التجارية محصوراً في مراكز المدن، وكان أغلب التسوق الأسري يتم شهرياً أو أسبوعياً، بل كان فصلياً أو سنوياً في الماضي غير البعيد، ولكن واقع الحال يظهر انتشاراً متزايداً للمحلات التجارية، التي شملت جميع المدن والقرى، مع توفر تنوع كبير من المواد الاستهلاكية في السوق، إذ يندر افتقاد مادة رغم العدوان العسكري والسياسي والاقتصادي الذي نعاني منه، ما أسفر عن تواكب ازدياد التسوق الفردي والأسري اليومي، بدلاً من ماضيه القريب الأسبوعي أو الشهري، وأن تصبح عشرات المواد غير المعهودة الاستهلاك حاجة يومية، رغم عدم ضرورتها، مع ملاحظة كثافة المتسوقين لدرجة الازدحام عند بعض التجار، رغم الشكوى من غلاء الأسعار.
ومن الملاحظ أن الطابق السفلي في معظم أبنية المدن وحتى في أبنية الريف -خاصة المتاخمة للطرقات العامة– يجهز كمحلات تجارية، والأكثر لفتاً للانتباه أن عشرات الشقق السكنية السفلى -الطوابق الأرضية– في أحياء المدن يتمّ تحويلها إلى محلات تجارية، كما أن كثيراً من العقارات الزراعية المتاخمة للطرق العامة، تشهد تشييد أبنية تجارية فيها، علماً أن مئات المحلات التجارية المبنية سابقاً غير مستثمرة، بعضها ما هو جاهز وبعضها قائم على الهيكل، وبين فترة وأخرى نشهد نشر مئات الملصقات التي تتضمن الإعلان عن طلب عمال بأجور مغرية لصالح شركات تجارية محدثة، والملفت للانتباه أن العمل التجاري لم يعد محصوراً في المتاجر المبنية، بل أصبح بعضه –غير القليل- مكشوفاً كلياً أو جزئياً، يشغل حيزاً من الأرصفة والساحات والطرقات، في معظم المدن، عدا عن انتشار التجارة بالسيارات المتوقفة أو الجوالة، ألا يدل ذلك على أن العمل التجاري يحقق مردودية عالية، خاصة وأننا لم نلحظ توسعاً موازياً مماثلاً – ولا حتى مقارباً جزئياً- في العمل الصناعي والزراعي، لا بل نشهد ضموراً نسبياً في هذين القطاعين، فالجهات الرسمية تشجع العمل التجاري بدليل تسهيل استيراد الكثير من المواد الاستهلاكية، وتسهيل استمرارية ترخيص المحلات التجارية الدائمة، وأيضاً المؤقتة (الأكشاك) على الأرصفة وفي الساحات والحدائق، والتغاضي عن كثير من غير المرخص والمخالف، وكثير من ترخيص المنشآت الإنتاجية لا يحظى بنفس التسهيلات، بل يلقى ممانعات تحت عنوان وآخر.
كما أن ظاهرة المنشآت التجارية الكبيرة تتنامى، فبين حين وآخر نقرأ إعلانات جدارية عن شركة تجارية تطلب عاملين بأجور مشجعة، ولا نجد تنامياً موازياً في المنشآت الزراعية أو الصناعية، حتى أن الدولة تكثف نشاطها باتجاه العمل التجاري، بدليل التزايد المتتابع في إحداث مراكز السورية للتجارة التي أصبحت تقارب الألفين، والجهود مستمرة باتجاه بلوغها الثلاثة آلاف، في حين لا نجد انتشار مراكز صناعية لمؤسسة عامة موازية باسم السورية للصناعة، وكم هي الحاجة ماسة لمثل هذه المؤسسة المفترض بل المتوجب وجودها لتنتج كثيراً من المواد المسوقة في السورية للتجارة، على غرار كثير من منتجات القطاع العام التي كان يتمّ تسويقها سابقاً في المؤسسة العامة الاستهلاكية والشركة العامة للتجزئة وشركة السندس، ولا يبدو أن جهة ما –رسمية أو منظماتية- تسعى باتجاه ذلك، فلا زالت محاولات استنهاض القطاع العام الإنتاجي المتعثر خجولة، ورهن الانتقال بين طاولات اللجان المتعددة، والمنظمات تكرس جهدها بمطالبة الدولة، وتتوانى عن الدور الإنتاجي المنوط بها، إذ نلحظ ندرة المنشآت الإنتاجية العائدة للمنظمات، بل وتعثر المراكز التجارية التي كانت عند بعضها.
من المؤكد أن التهافت على العمل التجاري نابع من الدخل الكبير المتحقق من هذا العمل، بدليل أن سعر المستهلك لمعظم المواد عند التاجر يفوق كثيراً عن سعرها عند المنتج، وأحياناً يزيد عن الضعف وخاصة لبعض المنتجات الزراعية، والسؤال الذي يؤرق الكثيرين: أما من وسيلة ما تحدّ من الربح التجاري العالي، الذي يتسبب بتسخير الكثير من الاستثمارات البشرية والمادية لصالح العمل التجاري، وتوجيه الدفة باتجاه تحفيز الإقبال الكبير الرسمي والخاص لإحداث المزيد من المنشآت الإنتاجية، ولعل الوسيلة الأفضل تتم عبر تنشيط دور هيئة تنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة، باتجاه تمكينها من تسهيلات إحداث آلاف المشاريع الإنتاجية الجديدة، واستنهاض الآلاف من المشاريع القائمة، بالتوازي مع الرقابة على السورية للتجارة لتضع المادة بين يدي المستهلك بأقل سعر ممكن، مع المزيد من تنشيط الرقابة على أسعار المتاجر الخاصة /جملة ومفرق/ للحدّ من الأرباح الفاحشة المشجعة للعمل التجاري على حساب الإنتاجي الواجب التشجيع.
عبد اللطيف عباس شعبان
عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية