الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

الحصان.. وحيداً

 

 

د. نضال الصالح

شعبان عبد الرحيم، المطرب الشعبي المصري الملقب شعبولا، الذي يكره “إسرائيل” ويحبّ “عمرو موسى” و”بيل غيتس” و”كشري أبو طارق” في القاهرة، ويعلن رفضه انتخاب البرادعي وانحيازه إلى جمال مبارك، و… مات، وفور موته، كما تناقلت صحف ومواقع وصفحات، امتنع حصانه عن الطعام والشراب، حتى لحق به بعد أيّام.
ما سبق ربّما كان خبراً أقلّ من عادي لدى كثير من الناس، ولكنه ليس كذلك بالنسبة لمَن يعرف بديعة الشاعر الراحل محمود درويش “لماذا تركتَ الحصان وحيداً؟” التي تتكثّف دلالياً حول التغريبة الفلسطينية، والتي يتصدّر الجزء الموسوم منها بـ”أبد الصبّار” سؤال الفتى الفلسطيني لأبيه: “إلى أين تأخذني يا أبي؟”، فبإجابة الأب: “إلى جهة الريح يا ولدي”، إلى أن تجهش التغريبة بالسؤال العلامة في النص: “لماذا تركت الحصان وحيداً؟ – لكي يؤنس البيتَ يا ولدي، فالبيوت تموت إذا غاب سكّانها”.
ليس الخبر عادياً بالنسبة إلى مَن يعرف تلك البديعة لدرويش، لأنّ ثمّة فرقاً بين حصان شعبولا وحصان درويش، فالأول، ما يعني الخبر الخاص بحصان شعبان، ينطوي على “بروباغندا” القصد منها استكمال عنصر المفارقة في شخصية شعبولا التي رافقته منذ بداية الإعلان عن نفسه مطرباً إلى صيرورته ظاهرة في الشارع المصري ومن ثمّ العربيّ، على حين يحيل الثاني على مأساة وطن كما هي مأساة شعب، وطن كان اسمه “فلسطين”، وسيبقى، فصار بإرادات ذئاب “إسرائيل”، وشعب كان آمناً في وطنه، ثمّ تبعثر أكثره في جهات الأرض.
ليكن ما يكون من أمر الصدق أو الكذب فيما يعني حصان شعبولا، على الرغم من وجود حكايات في التراث العربي تؤكد مثل هذه الظاهرة في حال واحدة هي نسبة الحصان إلى الخيول العربية الأصيلة، وعلى الرغم أيضاً من وجود حكايات تشير إلى الوجه الآخر لتلك العلاقة بين الحصان وصاحبه، أي موت صاحب الحصان غمّاً وكمداً بعد فقده حصانه. ليكن ما يكون، ولكن ما لم يكن، إلى الآن من تاريخنا الحديث على الأقلّ، ما يعني خبراً ينطوي تحت عباءة المجاز على الأقلّ أيضاً، عن قطّة قضت حزناً على وفاة فيلسوف أو شاعر أو روائي أو.. معاصر، بل ما يعني نقيض ذلك، ولاسيما في تشييع هذا الفيلسوف أو الشاعر أو.. إلى مثواه الأخير، حيث، باستثناءات قليلة، لا يتجاوز عدد المشيعين أصابع اليدين.
بيننا، في الوطن العربيّ عامّة، الكثير من الناس الذين ينتمون إلى ما يمكن الاصطلاح على الواحد منهم بشبُهة الحيّ، أو الميت وهو على قيد الحياة، ومن أولئك مَن ألحق بنفسه صفة الفيلسوف أو المفكر أو الباحث أو الشاعر أو.. وكان له في حياته من أسباب الحضور بالقوّة ما يتجاوز نصف ممّن يليق به الحضور بالفعل، وأولئك وهؤلاء ظلال أحياء مهما يكن من أمر صخبهم بأنفسهم، ومن تصفيق أشباههم له.
وبعدُ، أفلا تصح الاستعارة من تمييز أم سعد، في رواية الشهيد غسان كنفاني المعنونة باسمها، بين خيمتين، خيمة اللاجئ وخيمة الفدائي، في قولها: “خيمة عن خيمة تفرق”، فيُقال: حصان عن حصان يفرق؟