الشعر.. بدراً
حسن حميد
بلى، في مثل هذه الآونة ولد بدر شاكر السيّاب، الشاعر المفرد في الابتكار والتجديد والمضايفة، فقد ولد في25 ك1 عام 1926، وتوفي في 24 ك1 عام1964 في مدينة الكويت حيث كان يُعالج من مرض عجز الأطباء عن تشخيصه ومداواته لأن جسده نحل وضمر حدّ اليبس. ولم يكن تفرد السيّاب طفرة في مدينته البصرة، وإنما كان سيولة إبداعية، أو قل فتوحات إبداعية عرفها أهل البصرة جيلاً بعد جيل، فالفراهيدي وسيبويه والجاحظ وبشار بن برد، والأخفش، وعبد الله بن المقفع هم أبناء البصرة /الأعلام الذين نقشت أسماؤهم على يد الزمان بالحروف البارزة.
عرف السيّاب ما عرفه أترابه من قسوة الحياة في الريف، ولكنه ناف عليهم حين وعى ما حوله من جمال الطبيعة، وحين تعلق بالمعرفة ووعى أدوارها التي تقود إلى سلالم المجد. لقد مضى بدر، وهو ابن ست سنوات، بجسده الناحل، ودفتره الصغير، وقلمه الكوبيا إلى مدرسة تبعد عن قريته (جيكور) عشرة كيلو مترات كلها منعرجات والتواءات وأودية وتلال وسبخات ليأخذ بأوليات العلوم والمعرفة لأن قلبه تعلّق بالكتب والمدارس وأهل العلم، وحين نجح وتميّز، مضى إلى مدرسة أخرى تبعد عن قريته ثلاثة عشر كيلومترا ليستحوذ على المزيد من العلم والمعرفة، ثم ذهب إلى البصرة ليدرس مرحلة المدرسة الثانوية، وحين حاز شهادتها مضى إلى بغداد ليدرس في دار المعلمين العليا/ كلية التربية ليتخصص في الآداب الإنكليزية.
في بغداد، وعبر مخالطة البياتي وسليمان العيسى (القادم من سورية) وبلند الحيدري ولميعة عباس عمارة وعى أهمية الرؤيا السياسية ودورها في توجيه دفة النص الأدبي،لذلك مال نحو الأفكار الاشتراكية، وكان ميله هذا طبيعياً لأنه يتحدّر من بيئة فقيرة كواها الظلموت بناره الأكول، ثم تحوّل ميله السياسي نحو الفكر القومي تحت تأثير مجلة الآداب وما لعبته من أدوار حسوم في عقد الخمسينيات من القرن العشرين.
عانى بدر كثيراً من اجتماع المعاناة الثقيلة عليه، مادياً ومعنوياً، والأخطر كان موت جسده وتآكله وضموره ويبسه أمام عينيه، والأطباء من حوله في حيرة مطبقة. وعلى الرغم من هذا كله استطاع بدر النفاذ بنصه المدهش حدود العراق، فطبع ديوانه الأول (أزهار ذابلة) في القاهرة، ومن هناك شاع اسمه وانتشر عربياً، ثم طبع في بغداد دواوين عدة، ثم نفذ نصه إلى بيروت،فطبع دواوينه اللاحقة كلها هناك.
نص بدر الشعري نص مختلف ومدهش وثقيل الحمولة الجمالية، مثلما هو ثقيل الشغف في الابتكار والتجديد، وبه غيّر السيّاب خريطة الشعر العربي واتجاهاته، لكأن الشعر العربي كان بحاجة للسيّاب كي يتجدد ويتطور ويخرج عن أنساقه الاعتيادية، وقد حدث هذا بوجود عملاق الشعر العمودي الجواهري. ونص بدر، عدا الخروج على عمود الشعر، محتشد بالرموز والمعاني المستلّة من أساطير العرب والعجم وما فيها من قولات الفلسفة والتأمل والقيم ووعي بوارق الجمال.
السيّاب، وبحذق رفيع، وظّف كل شيء من أجل بناء قصيد عربي جديد حديث لم تسبقه إليه واعية إبداعية، وظّف معارفه وأحواله الاجتماعية العاصفة، وخذلان الحياة له، ومعارف الآخرين ليكون مميزاً من غيره حتى بمعاناته ورحيله الأليم.
صداقات السيّاب مع الجواهري وجبرا والخال وسهيل إدريس والبياتي والماغوط وأدونيس والملائكة أثرت حياته الأدبية وأغنتها، ومنحته حبّاً ضنّت به الحياة عليه، ولا سيما نجومية مرحلة سنوات مجلة (شعر).
الظروف، بأحوالها الصعبة والعابسة خذلت السيّاب، والجسد الذي ثقلت حمولته الطينية خذل السيّاب، والمرض الغامض الذي نفذ إلى أعماق روحه خذله أيضاً. أمر واحد لم يخذل السيّاب هو إبداعه الوقّاد الذي أبقاه ويبقيه شاعراً حيّاً خالداً في مملكة الشعر العزيز.