في ذكرى رحيله: ياسر المالح الذي أسر النفوس وجذب القلوب
أحيت ندوة البرنامج الإذاعي”كاتب وموقف” التي أقيمت مؤخراً في مركز ثقافي أبي رمانة بإدارة الإعلامي عبد الرحمن الحلبي ذكرى رحيل ياسر المالح المربي والفنان والإعلامي الذي ترك ذكرى معطرة لرجل وصف نفسه ذات يوم قائلاً: “نصفي قلم ونصفي نغم”.. وحضر الندوة جمهور كبير كان معظمه يرتاد هذا المكان كل خميس ليستمع لما اختاره المالح من موسيقا من خلال نادي الاستماع الموسيقي الذي أسسه وقدم فيه نحو 200 جلسة موسيقية على مدار ثلاث عشرة سنة، وبيَّن الحلبي في بداية الندوة أن استعادة ذكرى المالح تأكيد لحضوره المعرفي في مجالات عدة.
أتقن عملك تهزم عدوك
وأشارت زوجة المالح السيدة أمل خضركي أن ياسر المالح أحب الموسيقا وهو جنين في بطن أمه التي كانت تعزف على آلة العود فتشرَّب حب الموسيقا، وفي الجامعة كان أول من أسس فرقة موسيقية جامعية، ثم نظم ولحّن أغانٍ للمطربين، مؤكدة أن المالح قامة شامخة وعلَم بارز، تميز بصفات عدة قلما توجد في شخص واحد، فهو الشاعر والموسيقي والخطاط الذي تدرب على يد بدوي الديراني خطاط بلاد الشام.. وكزوج بيَّنت خضركي أن المالح كان زوجاً لطيف المعشر، مرحاً، خفيف الظل، نكتته حاضرة، ولذلك كان من ظرفاء دمشق، مشيرة إلى تواضعه الكبير ومحبته للأطفال، وكان معروفاً بدقته وتنظيمه في العمل انطلاقاً من إيمانه بمقولة “أتقن عملك تهزم عدوك” ولذلك كان يقضي معظم وقته في غرفة مكتبه، يعيش مخاضاً عسيراً لأفكار تجول بخاطره، منوهة إلى أن المالح كان طموحاً ونشيطاً وعنيداً في تحقيق أهدافه، والأهم أنه كان عاشقاً لدمشق، وقرأت خضركي قصيدة “شامي الحبيبة” التي كتبها لدمشق وهو بعيد عنها:
طال ليل البعد والشوق ضرامْ
فخذيني واحضنيني يا شآم
كما اختارت بضعة أسطر من قصيدة ثانية كتبها عن دمشق وهو في فرجينيا في الولايات المتحدة الأميركية عام 1994 وكانت تحت عنوان “رسالة إلى حبيبتي”:
“دمشقي الحبيبة/ لو كان ما في الكون ملكي وخيّروني/ لاخترت أن أحيا حياتي في الذرا/ من قاسيون”.
كما عرضت خضركي مجموعة من الفيديوهات التي يغنّي فيها الراحل المالح لمحمد عبد الوهاب، منوهة إلى أنه كان يحب إشراكها في كل عمل، ويستفيد من أي حوار يدور بينهما، ويعتبرها شريكته في كل شيء ويأخذ برأيها دائماً ولا ينشر مقالاً أو يلقي محاضرة أو يبدع برنامج منوعات أو غيره إلا بعد أن تبدي رأيها فيه فيعدّل به إلى أن يرضيا عنه معاً، مشيرة إلى أنها شاركته خمساً وعشرين سنة مليئة بالحوارات المفيدة والإبداعات، فألَّفا معاً كتاب “سهرة في بيتنا” وأنجزا جزءاً كبيراً من قاموس بعنوان “كلمات شامية تبحث عن جذورها” كما شاركته في تأليف مناهج مبتكرة في مادة اللغة العربية للناطقين بغيرها وتعليمها لهم صغاراً وكباراً، وصدرت كتب بهذا المجال دُرِّسَت في أميركا منذ العام 2009.
كان مصدراً للسعادة
ووصف الباحث أنس تللو الفنان المالح بأنه رجل متنوع وغزير، وكان يتكئ على أمرين في حياته: سعة الفكر التي جعلته رجلاً متنوعاً وغزيراً في مجالات عديدة: أدب وموسيقا وتعليم وشعر، والأمر الثاني الطرافة التي كانت القاسم المشترك في كل أعماله المقروءة والمسموعة، فأسر النفوس وجذب القلوب، وكان خير مصدر للسعادة، واستثمر هذه الصفات بكل إخلاص وتنظيم ودقة وإصرار على النجاح، فكان رجلاً بارعاً بظرافته وفصاحته وسهولة أسلوبه، مشيراً تللو إلى أن المالح بدأ العمل في عمر صغير كخطاط للّوحات التجارية، وفي عمر الـ 17 بدأ العملَ الإعلامي في الإذاعة والصحافة، فكتب تمثيليات للإذاعة السورية منذ العام 1956 وفي فترة لاحقة أصبح مؤلفاً لكتب مدرسية وأدبية ومخرجاً مسرحياً ومحاضراً وباحثاً وشاعراً وخطاطاً بارعاً، مؤكداً أن عبقريته تجلت في التعليم والإعلام والموسيقا، فهو أول من أسس البرامج التعليمية في التلفزيون السوري وأول من أعدّ برامج تلفزيونية لتعليم اللغة العربية لنشر الثقافة في مجال اللغة العربية مثل “أبجد هوز” وهو عبارة عن مشاهد فكاهية جعلت القواميس والمعاجم أشخاصاً تنطق، كما أنه أول من كتب فيلماً لرسوم الأطفال “أرض وسماء” في حين كان كبير الكتّاب في البرنامج الشهير “افتح يا سمسم” وأول من استخدم الكاميرا السينمائية في حلقة تلفزيونية كانت بعنوان “أنا الكاميرا” عام 1973 وهو أيضاً أول من حوّل كتاب “البخلاء” للجاحظ إلى مسلسل تلفزيوني.
ولأنه كان متنوع الثقافة نوَّه تللو إلى أن المالح كتب للتلفزيون برامج مبتكرة جداً مثل “مسافر-أبيض أسود-أبراج” وفي الإذاعة كان أول من كتب برامج لتعليم اللغة العربية مثل “حروفنا” ثم “دنيا الكلام” وبرامج موسيقية مثل “حديقة الأغاني” وهو أول من اقترح أن تقام الحفلات والمسرحيات في الهواء الطلق، وكان أول من حاضر في مركز ثقافي أبو رمانة عن ملامح الأغنية العربية، كما لحَّن وكتب مجموعة من الأغاني، ورحل وهو يمتلك أهم وأغزر مكتبة موسيقية والعديد من الكتب والأبحاث من أهمها: السينما وأثرها في التربية الحديثة 1958، الإذاعة والتلفزيون، الإبداع الأدبي المعاصر1981، أثر وسائل الإعلام في الطفل العربي وسبل تطويرها 1983، الفصحى والعامية في الإذاعة والتلفزيون في الوطن العربي 1984.
الصديق الصدوق
أما د. نهى الحافظ فتحدثت في الندوة كصديقة لعائلة ياسر المالح، وبيَّنت أنه كان الصديق الصدوق القادر على نشر المحبة والألفة أينما حل والحريص دوماً على تنظيم الملتقيات العائلية، مبتعداً عن مجالس ذوي النفوس ولو كانوا من أصدقائه وعن مخالطة الوصوليين والمتملقين.
أمينة عباس