في حــــــيّ العــــــازريـة
في حي “العازرية” الذي يقع في منطقة باب توما، يوجد في أحد أزقتها، تمثال لسيدة ترتدي ثوبا سماويا، وتضع على رأسها قطعة قماشية بيضاء، رافعة ذراعيها إلى السماء بوجه ملامحه الشاحبة، شبه مبتسمة.
هذا “المذبح” يوجد ربما منذ أكثر من 50 عاما، وفي كل فترة، يقوم أحدهم بترميمه وإعادة الألق إليه، فيعود متوهجا كما كان، رغم أنه موجود في الشارع، ولا حجاب بينه وبين الناظرين، إلا بضعة قضبان حديدية، صارت وكأنها حمالّة أماني للجميع، وخصوصا للعشاق، الذين يقفون في ذاك المكان، يشعلون شمعة، ويتمنون لبعضهم ما يتمنون، ثم يمضون، وتبقى تلك السيدة رافعة ذراعيها إلى السماء ووجهها يبتسم برقة، وعلى القضبان الحديدية التي تجعل الناظر القادم من جهة كنيسة “الزيتون” يظن أنه يشاهد سيدة تقف خلف نافذة، يعلّق من يستوقفه المكان على تلك القضبان شيئا بمثابة نذر صغير، سيكون هو دليله الذي لا يفنى، -بغض النظر عن خلفيته الدينية- لنيةٍ وضعها في قلبه ومضى.
في تطوافي الذي لا يكل ولا يمل في هذه المدينة التي تفجر ينبوع الحضارات من بين ورودها ورياحينها، حدث وأن مررت بالمكان أكثر من مرة، في كل واحدة منها، كان هناك مشهدا أو صورة تنطبع في البال إلى الأبد، فلا تُنسى، ربما للألفة التي بيني وبين المكان، الذي قضيت فيه قسطا من أيامي، زمن الخيال البارع الدلال، أنا ابن جبال الساحل السوري، الذي أشعلت دمشق النار بين دفتيّ صدره لأول مرة، من أجلسته في حجرها كواحد من أبناء رحمها، من أعطته تفاحة وقلما ودفتر رسم، من حفرت الرِقة على أضلاعه، بجزع حور تأهل بي على ضفاف حبيبها، من سقتني بكأس باذخ العذوبة، من بنات كرومها، وألقمتني من تينها وجوزها وزبيبها، من حملت قلقلي وهدلت له بأغان حروفها من نور مبين ليغفو، من رسمت ضحكاتي على حيطانها المتكئة من الحنو على أكتاف بعضها البعض، من أرتني الحياة بكامل بهائها وهي تُبدل أثوابها الفصول، من وهبتني الحب كسترة دافئة في يوم لئيم برده، من كسرت قلبي مرة واحدة وإلى الأبد، ومن ومن..
تلك المرات من هذا التطواف الإدماني، جاءت على مدى أكثر من عقدين، والمشاهد التي كنت أراها بفرح أثناء ذلك التطواف، وخصوصا بجانب تمثال السيدة العذراء ذاك، ثم أقوم بتخزينها في ذاكرتي التي باتت مثقوبة اليوم، يهرب منها ما يهرب من عزيزات الأمس، بفرحها وحزنها، بقسوتها ولطفها، تبدل الكثير من مفرداتها، بالأمس فقط كان العشاق اثنين اثنين هاهنا يخترعون فرحا من شمعة تقطر آمالا ذائبة ووعود لوعةٍ لا يخفت وهجها حتى في الكرى والنسيان، واليوم هناك عشاق أيضا، ولكن آمالهم ورغم كونها من صميم القلب، إلا أنها ليست من شؤونه، هناك وقفت “سيما” بجدائلها العشر المشعثُ بريقها، تحمل ورودا وشمعا فوق قطعة صفيح، لفتها بشال كان يخبئ أكتافها المرتجفة، ولم يعد صالحا لذلك، منتظرة ما لا يعرفه أحد، دون سؤال أو حتى نأمة تصدر عنها، وفي عينيها وقفت نظرة واحدة من بلور مشقق، يشعر من يراها بجانب تمثال السيدة العذراء، وكأنه يرى إلى جنة صغيرة، يانعة وندية، تقف على قدمين من ماء نقي منهمر.
بضاعتها كاسدة هذه الأيام، فمن سيشتري وردة في هذه الأيام الصعبة، وأي عاشق هذا الذي سيشعل شمعة ليحلف بدموعها، أيمانه العزيزة على ما يضج في قلبه، “سيما” جميلة كقطفة حبق، بريئة كصبح، لا تستجدي المارة، ولم تعد مهتمة كما بدا عليها، إن باعت بضاعتها النفيسة أم لا، أمامها وضعت تلك الصفيحة بما عليها، وعلى الحائط الصغير الذي يحمل التمثال، أسندت ظهرها الطفل، واخفضت رأسها حتى لاصق ركبتيها، وفي عالم ما، لا يعرف كنهه إلا هي وتلك المرأة الحنون التي تقف خلفها على هيئة تمثال فقير، راحت جدائلها تطير فيه، وضحكاتها تعدو فوق مروجه، حتى أنها لم تنتبه للرجل الذي جلس القرفصاء أمامها ليسألها عن ثمن الوردة، لكنه عدل عن ذلك لسبب ما، وضع شيئا من النقود فوق الصفيحة التي تغفو فوقها جثامين الورد وأعمدة الشمع، ثم أخذ وردة شاحب دم الغزال في عروقها، ومضى، دون أن ترفع سيما رأسها، فما هي فيه، لا شيء في الأرض يغريها بأن تعود منه.
كانت الساعة تميل عقاربها جهة الغروب، ونسمات ليالي الميلاد الباردة، تخترق اضلاعها اللينة، دون أن يتحرك أي شيء فيهاـ حتى أن من يراها من بعيد، يعتقد أنها دمية نسيها أحدهم في ذاك المكان، وكأن جميع من مروا في المكان، كانوا على اتفاق مبهم فيما بينهم، ألا يزعج أحدهم “سيما”، ولو لغرض أن يشتري، من فعل ذلك، فعله لوحده، أخذ وردة أو شمعة، ووضع شيئا من المال قبل أن يغادر، الصمت المهيب الذي كان يلفها، لم يجرؤ أي شخص على مسّ قدسيته، إنها في حضرة الأم الأكثر حزنا في التاريخ، وبينهما اتفاق مقدس، على أن الحياة قاسية عليهما، ولم تكن يوما إلا كذلك.
أحدهم وضع معطفه الوحيد الذي يملكه، فوق أكتافها، ولم يفلح برؤية عينيها، كان يريد أن يرى نبع ذاك القبس الذي يضيء المكان دون أي إنارة، طبيعية كانت أم اصطناعية، لكنه لم يفلح بذلك، فسيما نظراتها تطوف في عوالم بعيدة، وورودها التي اشتراها الجميع، لم تنقص إلا وردة واحدة.
تمّام علي بركات