“كرســـــي الرّحمــــــة” قـــــراءة فنيّـــــة ثقـــــــافيّة
يقول الناقد المغربي “عبد الفتّاح كيليطو”: “العنوان يعلو النّصّ ويمنحه النّور اللّازم لتتبعه” وعنوان روايتنا هذه “كرسي الرّحمة” للكاتبة الأمريكيّة “إليزابيث وينثروب” الصّادرة في لغتها الأم 2018م ، وحديثاً باللغة العربيّة 2019م، عن “دار ورد للنشر والتّوزيع “دمشق بتوقيع المترجمين “عبد الله بديع فاضل” و”لينا الرّواس” لا يحيد عن هذا المعنى، كعتبة نصيّة كثيفة موازية لمجمل المتن السردي، إلى جانب بوّابات أخرى تحاول أن تأخذ حيّزاً لها في البهو النّقديّ، مثل “صورة الغلاف، الاستهلال، اسم المؤلّف، الاقتباس، المقدّمة وتنويهات الكاتب الخ.
ما نلاحظه فور ولوجنا هذه البوّابات أنّها تبوح بكلمة السرّ ذاتها، التي تشكّل الـ”التيمة” الأساسيّة للرواية، وهي “التّمييز العنصري” لينطلق النّول السّردي قُدماً بحياكة قميص المتن بخيوطه المختلفة: (زمان، مكان، شخصيّات، أحداث، وصف، سرد، حوار الخ) فمن الدّلالة اللّغويّة للعنوان، إلى التّشكيل الفنّي للغلاف “صورة وجه شاب أسود اللون” إلى الاستهلال القائل: “لقد قلتُ الحقيقة، على أيّة حال، وأنا لستُ خائفاً من الموت” إلى مقدّمة المترجمين التي توجز موضوع الرواية بوضوح، إلى تنويه الكاتبة بأنّها استضاءت بعملها التّخييلي هذا، بأحداث وشخصيّات تاريخيّة، واقعيّة، كان قد حُكم عليها بالإعدام بموجب نصوص دستوريّة، استثمرتها أيضاً ضمن سياقها المطلوب، وهي ترمز إلى تلك المرحلة السوداء من تاريخ أمريكا ما قبل منتصف القرن العشرين الحرب العالمية الثانية، المعروفة بمرحلة “جيم كرو” التي كرّستْ مبدأ الفصل العنصري، نلمس هذا التّضافر الإشاري التّوضيحي، مع ميزة فنيّة غالبة تجلّت باتّكاء النصّ القوي على مدماك “الوصف التّفصيلي” كرافعة أساسيّة للعمل الفني، وهذه مغامرة، لأنّه من المعروف بأنّ سكونيّة الوصف تبطئ الزمان والحدث وتكاد توقفهما، ما يحتّم الإملال وربّما التوّقف عن متابعة القراءة، إلّا أنّ أسلوب السّاردة الشّاعريّ المطعّم معرفيّاً بالبعد النّفسي، والمستضيف لأدوات فنيّة من أجناس أخرى “الفن التّشكيلي، السّينما” هو الذي أنقذ العمل من “السكونيّة” مساهماً بترشيق السرد عبر دغمه بالوصف، ليمسكا سويّاً بتلابيب الحدث والزمان، وهذا ما جعل الحيويّة تشعّ في حنايا الّلوحات السرديّة التشكيليّة المنقوصة/ عن عمد أحياناً، كمحاولة لإشراك القارئ في لعبة القراءة وتأويلاتها. والمتكاملة بالضّرورة مع اللّوحة الأم. وفي مفاصل المقاطع التّصويريّة السينمائيّة المتقطعة/ المتّصلة وهي تلتقط بمجسّاتها الحسّاسة كيمياء الأمكنة بروائحها وإشاراتها وأصواتها المخفيّة، وتفيض على المكان مسحاً ومنتجة ومحاولة اكتشاف لبعدها الثالث المطمور، حيث استطاعت الكاتبة بحقنها الصورة الوصفيّة بهرمونات الصورة السرديّة أن تحقّق ذاك الانسجام بين مقوّمات العمل الفنيّ المختلفة، وهذا بدوره أثرى القراءة التّفاعليّة الشّائقة، بتتبّعها لذاك الخيط الواهي بين السطور، الذي شدّ أواصر ولحمة بعض الضمائر الحيّة، لتقف ولو همساً ضدّ تنفيذ عمليّة الإعدام. وقد استخدمت الساردة تقنيّات وصفيّة مختلفة، منها التقنيّة المسحيّة المتجلّية في أغلب تفاصيل المتن، التي تجاور وتوازي بين المشاهد الموصوفة. والتقنيّة العموديّة التي وصفها “أوسبنسكي” بـ “عين الطائر” حين توغل في جوّانيّة الشّخصيّات مصوّرةً لاعتمالاتها الداخليّة: “منولوجات، تداعيات، فراغات صامتة تتحرّك بفعل التأويل، وتقنية الرؤية التّصاعديّة التي تتطلّب كاميرا متحرّكة عبر وسائل النقل لتصوير “سيارة تحمل كرسي الإعدام، بغلة تحمل شاهدة قبر المتهم” وتلقي بطريقها الضّوء على أماكن ثابتة “مقاهي، محطّات وقود” يحملها رائي عليم لا يفوته شيء. تلتقي تحت قوس عدسته شخصيّات العمل الأساسية، وتتقاطع بمصادفات مدروسة في الأماكن الثابتة، الأفقيّة التي يسير الحدث على سكتّها دون عوائق تذكر، ماضياً إلى نهايته، حيث لا يفوته أيضاً، رصد ملامح الشخصيات الثانوية المتفرجة وهي تنتظر إتمام فعل الإعدام.
رؤية الكاتبة المكانية تقوم على آلية وصفيّة أفقيّة أدّت فيها اللّغة المشعرنة دوراً مهمّاً بامتصاص مفردات المكان عبر وصف تتابعي شاعري لجزئيّاته، فكانت تسلّط الضوء على بعض الشخصيات التي تبدو حياديّة تجاه بعضها، رغم خصوصيّة المكان الذي يجمعها كأسرة واحدة، إذ يجلس النائب العام “بولي” في غرفة مكتبه البيتي ويتأمّل زوجته “نيل” المنكبّة على ألوانها ورسوماتها. كذلك تفعل هي، ويفعل كلاهما منفصلين تجاه ابنهما “غابي”، وكذلك ابنهما يفعل تجاههما. وصاحبُ محطّة الوقود “ديل” الذي احتفظَ بالعبارة التي علّقها عمّه على واجهة المحطّة “للبيض فقط” كدليل دامغ على عنصريّته. وهو يراقب زوجته الصّامتة “أورا” المتحجّرة الوجه التي تكاد لا تجيب على أيٍّ من أسئلته، رغم ما كان يجمعهما من مودّة قديمة، وهموم انتظار ابنهما الغائب الذي استشهد في الحرب، دون أن تعرف الأمّ ذلك إلّا مؤخراً. هذه الحياديّة ذاتها تبدو متفاوتة أيضاً تجاه الحدث المرتقب “إعدام الشّاب الأسود”، الذي لجأت الكاتبة إلى مؤثّرات حسّيّة خارجيّة لتعمّق كثافته، وتزيد من حدّة الترقب له، كتكرار وصف الجو الحار المكتوم الهواء حدّ الاختناق وكذلك، عواء الكلب المجهول الصّاحب الذي لم ينقطع طيلة السرد، يقول المتهم “ويلي”: “هناك كما في الحلم، صوت كلب ينبح، دائماً صوت كلب ينبح”.
هكذا تجلّى الدّور البنيوي للوصف بتحويله المرئيّ إلى مقروء، وتجهيزه المكان والقوى الفاعلة “الحدث والشخصيّات” للحظة الانطلاق. يقول الناقد “عبد الوهاب زغدان” يتوالد عن هذا المشهد البصري الذي تنقله عين السارد وانتظار القارئ لطبيعة الأحداث التي ستدور في هذا المكان ما اصطلح عليه النقاد بمكان الانطلاق “حيث انطلقتْ الكاتبة بعدّتها الوصفيّة، لتضع القارئ بمواجهة الحدث منذ البداية، فالطّقس مقيت ودبق يضغط بكامل ثقله على المشهد، فلا تستطيع أن تأكل أو تنام أو تتنفس، وكرسيّ الإعدام ينتظر مزهوّاً، متلهفاً للقيام بمهمّته اللاإنسانيّة، بمقعده المستقيم الظهر، العاديّ الشكل بالنسبة لكرسي إعدام،الذي تصفه قائلةً: “إن فكرة أن يبدو المقعد مثل كرسي على هذا النّحو البسيط تسبّب الاضطراب لـ “لين”، فهو يرى شيئاً شريراً لشدّة بساطته”. هكذا تؤدّي الصّورة السرديّة وظيفتها الحيويّة على أكمل وجه بشحذ وتحريك الصورة الوصفيّة السّاكنة بطبيعتها. تقول “سيزا قاسم”: “هناك لا شكّ نوع من التوتر بين الوصف الذي يميّز بالسكون والسرد الذي يحشد الحركة، فإنّ النص الروائي يتذبذب بين هذين القطبين وهناك نوع من التداخل بين الوصف والسرد فيما يمكن تسميته بالصورة السرديّة وهي الصورة التي تعرض الأشياء متحرّكة، أمّا الصورة الوصفية فهي التي تعرض الأشياء في سكونها” ويقول “حميد لحميداني”: “عن طريق التحام السرد والوصف ينشأ فضاء الرواية”.
الزمان الروائي وهو زمان إنجاز العمل من قبل الكاتبة على الورق، يلقي بنفسه في سرير الزمان الفيزيائي الذي لا يتجاوز ساعات اليوم الواحد بكثير، محافظاً على تتابعه الخيطي دون معيقات أو ألعاب أسلوبيّة تهدف لخلط الأزمنة. سوى محاولة الكاتبة تكثيفه وإغنائه بزمن سيكولوجي خاص، تجلّى بكثرة المونولوجات والتداعيات النفسيّة للشّخصيّات وهي تترقّب الحدث العام الأساسي “الإعدام” بنفس الحدّة والقلق الذي تترقّب به حدثها الخاص.
أوس أحمد اسعد