مقــــاهــي دمشــــــــــق القــديمــــــــة
أمضى الدمشقيون أوقات فراغهم بارتياد أماكن التسلية في المقاهي، وتناولوا فيها أطراف الحديث، أو بالاستماع إلى النوبات والآلات الموسيقية والغناء، أو باللعب بالفناجين والخطة والشطرنج والنرد والضومنا والمنقلة، أو بالاستماع إلى الحكواتي، أو مشاهدة الكراكوزاتي.
واختصت المقاهي العامّة دون الخاصة، فارتادها الحرفيون، وأبناء العرب المقيمون في دمشق، وأبناء القوميات غير العربية، ووجدت المقاهي التي يرتادها أبناء الحرفة الواحدة كمقهى اللحامين والنجارين، وكان لمحترفي تربية الطيور مقهى تسمّى “قهوة الحميماتية” يقصده كلّ من يقوم أو يرغب بتربية الحمام، ووجدت المقاهي الخاصة بالمواصلة والبغداديين والمغاربة وغيرهم، ووجد أكثر من مئة وعشرين مقهى، وانتشرت في سائر أنحاء المدينة، على أنّ أكثر المقاهي اتساعاً وأجلبها للانشراح ما كان منها في المرجة، تظللها أغصان وارفة، وإذا ما تساقطت أوراقها في الخريف استعيض عنها بالحصر، ومنها ما كان يقع في جزر صغيرة كوّنها النهر ويعبر إليها على جسور أو مخاضات، وكان الذين يرتادونها يجلسون على الديفانات ليمتعوا الأنظار بالماء والخضرة، وقدم للزبائن في المقاهي البن والأراكيل والشراب المثلج، مثل شراب الورد والتوت، وغيرهما.
تطوّرت المقاهي في القرن التاسع عشر بفعل المؤثرات الغربية، وكان مقهى “ديمتري” وهو يوناني انتقل إلى دمشق وفتح مقهى على الطراز الحديث، كان موقعه في مرجة دمشق، وقد أصبحت المقاهي على نوعين: الأوّل وهو القديم، ويسمّى بالبلدي، ويتألف من مصاطب مستديرة عليها حصر وكراسي مربعة وكوانين للتدفئة، وبها مناضد موازية للكراسي، أمّا النوع الثاني، فهو المدني، وفيه كراسي خيزران، وما يلزم من أدوات اللعب.
وكان في دمشق مقاهٍ يسمونها كازينات، وهي في سوق الخيل والصوفانية خارج باب توما، ثمن فنجان القهوة فيها عشرون بارة وعشرة بارات في البقية، ومستأجريها كانوا من الوجهاء والأعيان، أمّا الإفرنج فقد أقاموا حفلات تنكرية ومساخر وكرنفلات، وانتشر بصورة تدريجية لعب الورق والنرد (طاولة الزهر) وشرع بعض الدمشقيين المتفرنجين يقلدون الجاليات الأوروبية والاهتمام بعطلة نهاية الأسبوع. وكانت معظم المقاهي تبنى على ضفاف بردى وفروعه، وفي كلّ مقهى قسم شتوي وآخر صيفي يسمى بـ “المصيف”، ولعب الحكواتي دوراً مهماً، حيث كان يقصّ على الناس أخبار عنترة والظاهر بيبرس، وغيرها من القصص الحماسية، جالساً على دكة عالية بحيث يراه جميع من في المقهى، فيقرأ فصلاً من القصة الشعبية ويجني البخشيش. وجذب حي اليهود في المدينة الذين كانوا يريدون التمتع بالحياة الصاخبة واقتناص المتعة، حيث يقضون السهرة مع أصدقائهم بصحبة الفتيات والراقصات ويشربون الخمرة.
وقد أغفلت سجلات محاكم دمشق لهذه الفترة أدوات اللعب فلم تأتِ على ذكرها، وربما اعتبرتها أدوات ميسر فتجاهلتها، وجلّ ما ذكرته منها، مكانها وهندستها وأثاثها، وفوق موجودات المقهى التي كانت موجودة بظاهر دمشق بمحلة سوق السنانية التي كانت تعرف بقهوة “الحمام” المشتملة على: “داخل وفناء وسقف وبركة ومساطب مستديرة وأوجاق معد لطبخ القهوة ومنافع شرعية، ويشمل كامل كدكها على رفوف وخرستان وشبابيك وأوجاق ولكن وغال وسكرة ومفاتيح وسبع أراكيل قشور وأربع أراكيل نحاس وطاسة نحاس ولكن نحاس، وتبعية نحاس، وأربع دولات نحاس وخمسين كرسياً وبساطاً أحمر، وعدّة قناديل ومنافع شرعية وهي من أوقاف سنان باشا”.
ولم يكن يسمح بتناول المسكرات في تلك المقاهي علناً، إلا بعد دخول إبراهيم باشا المصري إلى دمشق في سنة 1831، وإذا ما أراد أحد تناول المشروبات الروحية عليه أن يذهب إلى المقاهي في باب توما في حارة النصارى، حيث يوجد هناك مقاهٍ متعددة تعرف بالجنائن، وقاصدوها يتعاطون القهوة والأراكيل والمشروبات الروحية. وأشهر المقاهي آنئذ هي: قهوة السكرية في باب الجابية، وقهوة اللحامين بالقرب منها، وقهوة الدرويشية وقهوة العصرونية وقهوة المناخلية وقهوة الجنينة بسوق الخيل، ومقاهي العمارة وقهوة الجاويش بالقيمرية، وقهوة الرطل بباب توما وقهوة باب السلام.
فيصل خرتش