الحق في الاختلاف
محمد راتب الحلاق
أنت حر فيما تختار لنفسك، لكنك لست حراً ولا من حقك أن تختار للآخرين آراءهم وأفكارهم وعقائدهم وأنماط سلوكهم، كما إنك لست حراً في تسفيه آراء الآخرين، ولا في التهكم على اختياراتهم وتصرفاتهم باسم النقد، لأن الانتقاد لا يكون بالشتائم، ولا بتبخيس اختيارات الآخرين، فهذا ينافي العقل والقيم الإنسانية التي تقول بحق كل فرد في أن يختار فكره وانتماءه. وبحقه في أن نتعامل معه كند، وكشريك، وليس كوسيلة. ومعاملة الآخرين كأنداد وشركاء يعني الاعتراف بحقوقهم التي ينبغي أن لا تقل عن حقوقنا، حتى وإن كانوا ذاهلين عن هذه الحقوق، أو كانوا مضطرين للتنازل عنها لأي سبب من الأسباب، أولم يقل ابن رشد: من العدل أن يأتي الرجل من الحجج لخصومه بمثل ما يأتي به لنفسه؟ أولم يقل الفيلسوف الألماني (كانت) في المنحى ذاته: ينبغي على كل إنسان أن يعامل الآخرين المختلفين معه كغاية وليس كوسيلة، وبمثل ما يحب أن يعاملوه به؟.
وما قلناه عن الأفراد ينطبق على المجتمعات والشعوب والأمم، فالحق في التنوع والاختلاف الثقافي من مبادئ ما يسمى بالجيل الثالث لمنظومة حقوق الإنسان، التي تعترف بتساوي الثقافات الإنسانية، لأن هذا الاختلاف من طبيعة الأمور، فالتنوع الثقافي ظاهرة تاريخية وواقعية ملموسة لابد من الاعتراف بها.
وبهذه المناسبة لابد من التمييز بين الخلاف والاختلاف: الخلاف يعني وجود تباين في الغايات والوسائل في آن معاً، في حين يعني الاختلاف أن الغايات واحدة مع وجود تباين في الوسائل والأساليب المؤدية إلى تحقيق تلك الغايات. والاختلاف ينتج عادة عن الاجتهاد، وعن تفاوت درجة التحصيل، وعن الفروق الفردية. في حين ينجم الخلاف عن تضارب المصالح، وإتباع الأهواء، والاعتداد المبالغ فيه بالرأي، وعن الاعتداء على حقوق الآخرين. والاختلاف يكون من أجل تعميق الفهم وليس من أجل تأييد الباطل.
ثم إن تنميط سلوك البشر يشكل اعتداءً صارخاً على إنسانيتهم وكرامتهم، وعلى حقهم بالتمايز والاجتهاد والاختلاف. وتنميط البشر وصبهم في قالب واحد يسبب البلادة، ويقضي على روح المبادرة والمنافسة، ويثير الفتن، ويباعد بين القلوب، ويفرق بدل أن يوحد.
وعلى كل فرد، قبل التهكم على ما يظن أنها ترهات وخرافات يمارسها الآخرون أن يتذكر الخرافات والترهات التي يمارسها هو في المجالات كافة، من دون أن ينتبه لذلك، بحكم التعود، أو بحكم الكسل وتقليد الآباء والأجداد والمشهورين. والكلام ينبغي أن يوجهه كل منا إلى نفسه قبل أن يوجهه للآخرين.
اللهم ارزقنا عقلاً واعياً، وصبراً على قراءة الفكر المختلف معنا، حتى نستفيد مما فيه من حقائق، أو لنرد على مغالطاته إن وجدت، فالحقيقة نسبية، ولو كنت في مكاني لرأيت أنت ما أراه أنا. ولو كنت في مكانك لرأيت أنا ما تراه أنت. وكل منا قد يكون على حق فيما يرى، لكنه لا يرى، في أغلب الأحيان، إلا جزءاً من الحقيقة الكلية، حسب الموقع الذي هو فيه، وحسب الزاوية التي أتيح له أن ينظر منها، والمشكلة أن كلاً منا يزعم أن ما يراه هو الحقيقة الكاملة والصحيحة.
ولو تبادلنا المواقع، أو اطلعنا على الأمور من زوايا أكثر رحابة لفهم كل منا الآخر، وقبله كند وشريك، ولتم تبادل الآراء بما ينفع الناس والأوطان، هذا إذا كنا نزيهين ومنصفين.