بالجرم المشهود!؟
د. نهلة عيسى
أمس، لا أعرف لماذا والاحتفالات تغزو المدينة رغماً عن أنف المطر, والصقيع, والتدفئة الكسيحة, وأكاذيب المنجمين, والجيوب المتجملة براتب أول الشهر, ولباقي الشهر العزاء والسلوان, كنت أتلطى تحت بطانيتي وسني يقرع سني بانتظار عودة الغالية, عزيزة المنال, السيدة “كهرباء”, كنت أضحك, وبخطى نمرة تراود فريستها, اقتربت مني أختي، وكمن يلقي القبض على مجرم بالجرم المشهود, بالسؤال باغتتني: لماذا تضحكين؟ قلت: لله, قالت: لا شيء لله هذه الأيام, فقهقهتُ, فاصفر وجهها غضباً, وسألتني بتوجس لا يستر وجهه: ما المضحك إلى هذه الدرجة فيما قلت؟ فرددت: المضحك أننا بتنا نتوجس من الضحك, ونرى فيه سخرية لا فرح, نراه مجرم حرب, شاهد زور, ونطبق عليه الشفاه كي لا يُرى, كالقتيل بلا ذنب في محاكمة صورية, يتلو فيها القاضي الحكم: يعلن فيه براءة القاتل, والحكم بشنق القتيل, وتلزيم نفقات الدعوى لأهل القتيل, وسجن من يحب القتيل!.
يا حبيبة: فاض الوجع بنا, فمزق عن تجلدنا معاطفنا, ورمانا على أعتاب النميمة والثرثرة, والتعوذ من فعل شيطان رجيم, يحتفل به العالم “الحر” على أنه “ثورة جياع”, ونبل فكرة, والغريب أنه هو المجاعة والمجزرة, وهو المسوغ الآن لوأد كل فكرة, فهل ترانا لا نرى!؟ لذلك: الضحك في حضرة الظلم سيفاً مشرعاً, حاملاً للرسائل: ربما تقتلون النهار, لكن الفجر دائماً, في أحضاننا وليد.
فاض الوجع بنا بجد الجد, والكلمات أقداحٌ مكسرة الحواف, إذ أنطقناها تجَرَح اللسان, وإن كتمناها تجَرَح الصمت, وفي الفم آلاف الشتائم على من كانوا السبب, وملايين الأدعية, يارب: نلوذ بالجدران نحفر فوقها الأسماء, لكنها تتفتت! الجدران وهمٌ, والرجال والنساء الملصقون على مساحة صفحة الإعلان عليها, كانوا أحبة حتى الأمس!.
فاض الوجع بنا, والنبض توقف, والساعات لا تتوقف, دقةٌ تلو الدقة, يادقات الساعات: قولي لنا من مات, وكم فاتنا من أموات, ونحن نحتسي الأوسمة العسكرية, ودماء الشهداء في مجالس العزاء, ثمن ختم السهرات بالتمتمة والبسملة, والتعوذ من شيطان رجيم يجفف الحليب في الضروع, ويطلق الرصاص على شفاهنا اليابسات من العطش, تردد من الذاكرة مع التلفاز, النشيد الوطني منهياً برامج المساء, هل تذكرون؟.
فاض الوجع بنا, والحرب وجرائرها, والقائمون عليها والمنتفعون منها, باتوا رفاق درب, ذراعٌ يلتف بذراع, وساقٌ بساق, وعند كل ليلٍ, يخلعون ملابسهم المضرجة بالدماء, ويستحمون بدمع عيوننا, ليستردوا نضارة الألوان, رغم قباحة الألوان, ويستعيدوا عزمهم المتين, ثم يستلقون جوارنا في الظلام على الأَسرةِ, يطالبون بالحب, بالدفء, ويهمسون في آذاننا بحميمية المقيم: مازال مشوارنا معاً طويلٌ.. طويل, فندير الظهر لهم, ونناجي الرب: يا رب صعب عيش القاتل مع القتيل, أما آن لهذا الليل أن ينتهي!؟ فينتهي الليل ولا ينتهي عيشنا مع القاتل!.
يا صديقة, فاض الوجع بنا, والحرب رياحٌ من سموم, ترتوي من أنهار صبرنا, فيهدأ الفرس الحرون, ولا تهدأُ, وتستزيدنا بكائيات, وتطرب للنشيج يستوطن الحلوق, وتجبر الشوارع على ارتداء الجوارب السوداء, والمباني على ملابس الأسى, وتغطي قرص الشمس بلون الحبر, فتبادل في ليلها السباب, لأننا لا نرى, ونختصم على نتائج الكرة, وعلى من فينا ثبت, ومن فينا هرب, ومن فينا مع بزة القاتل, ومن فينا مع بزة القتيل, رغم أن البزتين سواء, والرجال هم من يختلفون, هل يستوي الذين يعقلون والذين لا يعقلون!؟
حقاً البزتين سواء, الرجال من يختلفون, في الأولى سافك دم, مضيع وطن, وفي الثانية شهيد, ونحن والعلم عند الرب, بشفاهنا اليابسات من العطش, وعيوننا المغمورة بالظلال, نرى بزة الشهيد مصحفاً, نقسم عليه كل صباح, والنشيد الوطني يملأ الأسماع, مفتتحاً برامج الإذاعة, وصوت هيام من الشام يردد: عندي ثقة فيك, ونردد القول خلف هيام, وبالتأكيد نحن لا نعني السنة الجديدة.