حلف الناتو.. انهيار أم تأقلم!؟
د. معن منيف سليمان
يجاهد حلف الناتو بعد مرور سبعين عاماً على تأسيسه، أن يظهر أنه يواكب الأحداث المتسارعة في عالم متغيّر، وسط جدل وتشكيك من قبل عددٍ قليلٍ من الأعضاء في دوره المحوري في الدفاع عن الدول المشاركة في التحالف البالغ عددها تسعاً وعشرين دولةً، وأن الحلف بات بحاجة إلى النمو والتغيير، وخاصة بعد تشكيك الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في أهميته، أو بعد انتقادات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي أكّد أن الحلف يحتضر. ويتعرّض الحلف الآن لضغوط للمساهمة في حلّ بعض من أعقد الأزمات العالمية، وقد دفعته واشنطن لبحث قضايا عدّة من الناحيتين الإستراتيجية والسياسية، مع احتمال انسحاب واشنطن من الحلف في حالة عدم زيادة الدول الأعضاء الأخرى معدّلات إنفاقها العسكري.
يسعى الحلفاء الأوروبيون من أجل تعزيز القدرات الدفاعية داخل الاتحاد الأوروبي، في إطار جهود أوسع نطاقاً لإعطاء التكتل الأوروبي استقلالية أكبر عن الولايات المتحدة، فأعلن أنه سيضيف الحلف فرعاً جديداً خامساً للقوات العسكرية وهو الفضاء، إلى جانب الأفرع التقليدية للدفاع وهي القوات البرية والبحرية والجوية، فضلاً عن الفرع الذي أضيف مؤخراً وهو الفضاء السيبراني.
وزادت الدول المتحالفة فقرات ميزانيات الدفاع، وتسير الآن ألمانيا على طريق إنفاق 1.42 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي لديها على الدفاع خلال العام المقبل، وبذلك تقترب من الهدف المحدّد للناتو برفع هذه النسبة إلى 2 بالمئة. فخلال القمّة الأخيرة لحلف الأطلسي، انتقد الرئيس الأمريكي ترامب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل متّهماً إياها بأنها لم تساهم بشكلٍ كافٍ في جهود الدفاع وبالمشاركة في إعادة تسليح روسيا من خلال شراء الغاز منها.
ومن ناحية أخرى، أثارت الأحداث الجارية في شمال شرق سورية تحدّياً جديداً للناتو، وهو عدم قدرته على اتخاذ إجراء ضدّ أعضائه الذين يخرجون عن الإجماع. وكان التدخل التركي في هذه المنطقة هو الأخير في سلسلة من التجاوزات التركية في حق الناتو، فقد سبق أن اختارت تركيا – عضو الناتو- شراء نظام روسي للدفاع الجوي بدلاً من نظام أمريكي مماثل يتماشى مع معدات الحلف الدفاعية، كما أن الحلفاء الغربيين في الناتو تابعوا بقلق القمع التركي للحريات المدنية في أعقاب محاولة الانقلاب عام 2016، وقال أحد الدبلوماسيين مؤخراً: “إن الناتو يمكنه فقط أن يتخذ خطوة ما في حالة اتخاذ الدول الأعضاء قرارات بالإجماع”، مشيراً إلى أن معاهدة تأسيس الحلف “لم تتضمن اتخاذ إجراءات ضدّ أحد الأعضاء”.
ومن القضايا المطروحة على بساط البحث التهديد الذي تشكّله روسيا، وإجراءات الناتو لاتخاذ ردّ الفعل بسرعة إزاء الأحداث الجارية على حدود أعضائه، إلى جانب صعود الصين عالمياً، ومواجهة مجموعة متنوعة من التهديدات، وما تمثّله التكنولوجيا الجديدة من تحديات مثل الحروب بالروبوتات، كما تشمل المناقشات عمليات تدريب الجيوش الوطنية في كل من العراق وأفغانستان وغيرها.
وفاجأ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نظراءه من خلال تصريحاته الخارجة عن المألوف بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ومنطقة البلقان -عندما عرقل بدء مفاوضات انضمام شمالي مقدونيا إلى الاتحاد الأوروبي- ودعوته إلى التقارب مع روسيا، وبأن الناتو يعاني من “موت سريري”، وأن على أوروبا تطوير قوة عسكرية خاصة بها، وقد أثار ماكرون بتصريحه هذا مشكلة كبيرة، كما صرّح أيضاً أن الرئيس الأمريكي ترامب لا يشاركه فكرة “المشروع الأوروبي”، وفوق ذلك كلّه، أضاف أنه حتى إذا لم تتمّ إعادة انتخاب ترامب، فإن الاتجاهات التاريخية تتجه إلى تفكيك تحالف الناتو، مع وجود فجوة آخذة في الاتساع بين الولايات المتحدة وأوروبا.
يركّز ماكرون على الحلف الأطلسي الذي يضمّ حالياً 29 بلداً من أوروبا وأمريكا الشمالية، الولايات المتحدة وكندا، وقد رأى النور في واشنطن في 4 نيسان من عام 1949 ليكون المنظمة التي تحمي الغرب من الأطماع السوفييتية، إلا أن انهيار “حلف وارسو” وتفكّك الاتحاد السوفييتي، غيّرا الأوضاع الإستراتيجية ومعها وظيفة الحلف وأهدافه العليا. لذا، فإن ماكرون يطالب، في الحديث المشار إليه بـ”توضيح الأهداف الإستراتيجية” للحلف الأطلسي التي لم تعد واضحة، وما يدفع ماكرون إلى هذا التشخيص المتشائم هو الافتقار للتنسيق وعدم القدرة على التنبؤ بالسياسة الأمريكية في ظل قيادة الرئيس دونالد ترامب.
بالنسبة للرئيس ماكرون، المشكلة ليست بالرئيس ترامب وحده، بل ذكّر بالرئيس أوباما حين وضع خطوطاً حمراء في سورية ولم يفعل شيئاً في النهاية، وبحسب ماكرون كيف يمكن لأوروبا أن تثق بأن واشنطن ستنفذ المادة الخامسة من معاهدة الناتو التي تنصّ على التضامن العسكري في حالة العدوان؟ لهذا السبب دعا ماكرون إلى الاستقلال الاستراتيجي لأوروبا، ولهذا يريد استئناف المحادثات مع روسيا لإعطاء فرنسا وأوروبا مساحة أكبر للمناورة. فهل يمكن الوثوق بتحالف عندما يعلن رئيس الدولة القائدة له أنه عفا عليه الزمن؟ وما مدى قوة الضمانات الأمريكية عندما يقوم الأمريكيون بسحب قواتهم من سورية دون التشاور مع حلفائهم الأوروبيين أو تحذيرهم، والتخلي عن حلفائهم؟.
إنّ حديث الرئيس ماكرون في هذا التوقيت عن موت الناتو لا يمكن أن يعدّ مجرّد خطاب ردّ فارغ على خطابات الرئيس ترامب، خاصة إذا ما تتبعنا التصريحات الأخرى له، والتي يطالب فيها بأوروبا أكثر استقلالاً تسعى إلى الحوار والشراكة مع روسيا، وهو الأمر الذي لا يمكن لأوروبا أن تفعله في ظل السيطرة الأمريكية، لكنّ هذا لا يُسقط أنّ الأوروبيين الغربيين يرون في إنهاء الناتو، ومعه السيطرة الأمريكية عليهم، خياراً منطقياً ودرباً عليهم الشروع فيه. فدعوة الرئيس ماكرون للدول الأوروبية كي “تستيقظ” و”تسيطر على قدرها” هو المعبّر الحقيقي عن الرغبات والمشاريع الأوروبية، ودون ذلك هي مجرّد تفاصيل.