لن تُطمس الحقيقة
ترجمة: البعث
عن “ذي أميريكان كونزيرفاتيف” 27/12/2019
لعلها أقل فضيحة تم تغطيتها عن أقل خلاف دولي تمت تغطيته في الآونة الأخيرة، وعلى أثر ذلك استقال الصحفي طارق حداد، أحد أعمدة وسائل الإعلام الرئيسية، من مجلة نيوزويك، إذ اختلف مع المجلة بسبب رفضها تغطية الفضيحة التي تتكشف داخل منظمة حظر الأسلحة الكيميائية.
تشير الدلائل المتراكمة إلى أن المنظمة تلاعبت في تقارير التحقيق في استخدام مزعوم للأسلحة الكيميائية في دوما في 7 نيسان 2018، ومثلت هذه المزاعم ذريعة للهجوم الأمريكي- البريطاني- الفرنسي على سورية، رغم أن المنظمة لم تكن قد عاينت الموقع في دوما بعد، ناهيك عن إصدارها تقريراً عن نتائج هذه المعاينة.
قال حداد في تغريدة على تويتر “استقلت من نيوزويك بعد محاولاتي نشر الدلائل الدامغة التي تم تسريبها من منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، وتم صدي دون سبب وجيه”، وأضاف “جمعت أدلة تبين كيف طمست [المنظمة] القصة إلى جانب أدلة من قضية أخرى أزيلت فيها معلومات تدين الحكومة الأمريكية”، وأشار حداد كذلك إلى أن المجلة هددته باتخاذ إجراءات قانونية ضده في حال سعى إلى نشر ما توصل إليه في مكان آخر.
وقع تحقيق دوما تحت سحابة من الجدل بعد فترة وجيزة من إصدار المنظمة تقريرها في أوائل آذار 2019، وكان إيان هندرسون، أحد مهندسي المنظمة، مَنْ أعد الوثيقة التي تحدت استنتاجات فريق التفتيش فيما يتعلق بمصدر أسطوانتي غاز الكلور الموجودتان في موقع الحدث، وأثارت الوثيقة احتمال وضع تلك الأسطوانتين يدوياً في الموقع، ما أثار مسألة إن كان حادث دوما مفتعلاً بأكمله.
بيد أن قصة حداد لا تتعلق بتقرير هندرسون، بل بسلسلة من الوثائق الجديدة التي يدعمها مفتش متخف من المنظمة يعرف باسم “آليكس”، والذي اتهم قيادة المنظمة بتجاهل النتائج التي توصل إليها مفتشوها لصالح تقرير مراجعة أعده فريق آخر من المفتشين في تركيا، استند الفريق الثاني بشدة على بيانات وشهود قدمهم “الخوذ البيضاء” و”الجمعية الطبية السورية الأمريكية”، اللتان تدعيان أنهما منظمتان إنسانيتان.
أُثبتت صحة المواد المسربة عبر مقابلة مع مراسلين اختارهم “آليكس”، الذي كان أحد المفتشين في تحقيق دوما، كما أن الرواية التي وردت عن التحقق من هذه البيانات الجديدة تدين منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، التي أخفت نتائج فريق التحقيق، والتي خلصت بدورها إلى أن الكلور لم يستخدم كسلاح في دوما، ثم تآمرت المنظمة مع الولايات المتحدة لإعداد تقرير آخر يدين الحكومة السورية.
في الظروف العادية، كانت الوثائق المسربة وشهادات المبلغين أمثال “آليكس” لتجذب انتباه وسائل الإعلام الرئيسية، خصوصاً لارتباطها بإدارة ترامب، ومر وقت كانت لا تخشى فيه وسائل الإعلام تناول رواية مثيرة للجدل ونشرها، فعندما استقلت من منصبي كرئيس مفتشي الأسلحة لدى لجنة الأمم المتحدة الخاصة، التي كلفت بنزع أسلحة الدمار الشامل العراقية أو تفكيكها، في آب عام 1998، احتل نبأ استقالتي الصفحات الأولى في الصحف، ودعيت للإدلاء بشهادتي أمام كل من مجلس الشيوخ ومجلس النواب حول مزاعمي التي تركزت على التدخل الأمريكي في عمل اللجنة.
حالت شيطنة عراق صدام حسين دون إجراء نقاش مجدٍ لقضايا نزع السلاح، وكانت الحصيلة النهائية اعتناق فكرة حيازة العراق لأسلحة دمار شامل، دون وجود دليل يدعم ذلك، ومن ثم قبول فكرة أن الحرب هي الحل الوحيد، رغم أن عمليات التفتيش على الأسلحة أثبتت فعاليتها، وتبقى حقيقة أن قضية أسلحة الدمار الشامل العراقية كانت ثانوية أمام مسألة احتلال العراق.
هناك العديد من أوجه التشابه بين حالة مفتشي اللجنة الخاصة وحالة مفتشي لجنة دوما، خاصة عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن نزاهة المؤسسة التي يمثلونها ومقاومة فساد المؤثرين الخارجيين الأخلاقي.
إن رفض نيوزويك تقرير طارق حداد أمر مقلق، وفشل وسائل الإعلام في تناول هذه القصة ونشرها هو إدانة فاضحة لصحافة اليوم، عرفنا أياماً انخرط فيها صحافيون جريئون أمثال سيمور هيرش في قصة كهذه، غير أن المنافذ التي اختارها هيرش، صحيفة “ذا نيويوركر”، ذات يوم تخلت عن سعيها خلف الحقيقة لصالح نشر قصص تشيطن الأسد وبوتين، ويمكن قول الشيء نفسه عن صحيفتي نيويورك تايمز وواشنطن بوست وغيرهما من وسائل الإعلام الرئيسية.
تضم فضيحة منظمة حظر الأسلحة الكيميائية كافة العناصر السينمائية، الأبطال والأشرار والفضيحة والأكاذيب والتستر، لكن الحقيقة لم تعد وقود الأعمال الإعلامية التي يفترض بصحافة الحديثة أن تحافظ عليه، خاصة عندما يتم تجاهل الحقيقة كونها تبرئ الأسد، وطالما بقي نموذج قمع الصحافيين سائداً، ستبقى الشعوب سجينة جهلها.
الكاتب: سكوت ريتر، وهو ضابط استخبارات سابق في فيلق مشاة البحرية، خدم في الخليج العربي أثناء عملية “عاصفة الصحراء، وأشرف في العراق على نزع أسلحة الدمار الشامل.