حرب ترامب على منظمة التجارة العالمية
عناية ناصر
أدى الموقف المتشدد لإدارة ترامب بشأن التجارة العالمية إلى إصابة منظمة التجارة العالمية بالشلل لأن الحل الوسط لم يمكن تحقيقه في جنيف. لقد تأسست منظمة التجارة العالمية منذ 25 عاماً لمنع الحمائية والبت في المخالفات التجارية. لكن الولايات المتحدة، وعلى مدى العامين الماضيين، فرضت قواعدها الخاصة من خلال فرض تعريفات أحادية الجانب وتأكيد الهيمنة الأمريكية، وهذا بدوره يهدد النظام التجاري الدولي القائم على القانون.
اختارت إدارة ترامب تركيز جهودها على المفاوضات التجارية بين الولايات المتحدة والصين، متجاهلة التهديد الوجودي الذي يطال جهاز الاستئناف التابع لمنظمة التجارة العالمية. تقليدياً، تفصل محكمة الاستئناف في المنازعات بين الدول الأعضاء، وهي تتألف حالياً من قاض واحد فقط. في الظروف العادية، تضم المحكمة سبعة قضاة، ويجب أن يتواجد ما لا يقل عن ثلاثة قضاة للنصاب القانوني. انخفضت هيئة الاستئناف إلى قاض واحد في 10 كانون الأول الماضي، لأن الدول الأعضاء لم تقم بتعيينات جديدة، وهذا بدوره أوقف جميع أحكام الاستئناف بشأن المسائل التجارية حتى يتم التوصل إلى حل جديد. بالإضافة إلى ذلك، هددت الولايات المتحدة أيضاً بوقف ميزانية هيئة الاستئناف. وأكد روبرتو أزيفيدو، المدير العام لمنظمة التجارة العالمية، أن المنظمة ستبحث عن حلول مؤقتة وطويلة الأجل خلال فترة الأزمة هذه.
من خلال رفض التسويات المحتملة لإنقاذ عملية الاستئناف، دفعت الولايات المتحدة المنظمة نحو نقطة الانهيار، ونظراً لعدم التوصل إلى حل وسط بحلول منتصف يوم 10 كانون الأول الماضي، فقد نشأ سيناريو تصبح فيه انتهاكات التجارة دونما كابح. وهذا ينطوي على إمكانية خلق تجارة دولية متوحشة “حيث يفعل الأقوياء ما بوسعهم والضعفاء يعانون مما يترتب عليهم”.
وفي حين يؤكد المسؤولون الأمريكيون أن منظمة التجارة العالمية مستقلة عن النفوذ الأمريكي، فإنهم أفشلوا كل الترشيحات لمحكمة الاستئناف. في تموز الماضي، جادل نائب الممثل التجاري للولايات المتحدة الأمريكية بأن “هيئة الاستئناف ابتعدت عما وافق عليه الأعضاء”. وبدلاً من مناقشة تعيينات الاستئناف، شددت الولايات المتحدة على الانتهاكات التجارية للصين، وفرضت تعريفة جمركية مختلفة من أجل إجبار الصين على التراجع. ومع ذلك، لم تستجب الصين لمطالب الولايات المتحدة. ونتيجة لذلك، عانى كلا الاقتصادين، حيث قدّر خبراء الاقتصاد التابعون للأمم المتحدة أن الحرب التجارية كلفت الولايات المتحدة 125 مليار دولار، والصين 35 مليار دولار.
من الواضح أن منظمة التجارة العالمية تحتاج إلى تغييرات هيكلية كبيرة. لكن يجب ألا تملي إحدى الدول أو تعرقل تعيين مرشحي الاستئناف أو ميزانيتها. فالدول الأعضاء اشتكت من العملية المطولة لتسوية المنازعات. ما يعني إن نفاد صبر الرئيس الأمريكي ترامب سلط الضوء ببساطة على العيوب الموجودة التي تم التعبير عنها لعقود. ومع ذلك ، فإن نهجه لن يصحح هذه القضايا. بالإضافة إلى ذلك ، استخف ترامب علناً بالمنظمة وهددها بناءً على معاملتها لأمريكا، وقال في مقابلة عام 2018 : “إذا لم تتحسن، فسأنسحب من منظمة التجارة العالمية”.
وهنا يطرح السؤال التالي هل أمريكا تعامل بشكل غير عادل؟ بالنظر إلى معدل أحكام اللجان، استفادت منظمة التجارة العالمية بوضوح من أمريكا. ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة تمزق المؤسسة بمفردها من خلال الوقوف في طريق مرشحي الاستئناف ووضع معايير فرض التعريفة الجمركية من جانب واحد على الشركاء التجاريين الرئيسيين. والتناقض يبدو صارخاً في سلوك الإدارة الحالية، فعندما تنحاز منظمة التجارة العالمية إلى جانب الولايات المتحدة ، فإن إدارة ترامب تشيد بالمؤسسة وتثني عليها. كما كان الحال في شهر تشرين الأول الماضي، حيث أجازت منظمة التجارة العالمية التعريفة الانتقامية على الاتحاد الأوروبي، وفي ذلك الوقت غرد ترامب ابتهاجاً بالنصر الأمريكي. ومن ناحية مقابلة، وعندما تقدمت الصين بشكوى ضد الإغراق الذي تقوم به الولايات المتحدة، تخطت إدارة ترامب بشكل كامل منظمة التجارة العالمية وفضلت إجراء مفاوضات ثنائية مع بكين، معربة عن عدم احترامها للمؤسسة.
ماذا كان يعني الموعد النهائي في 10 كانون الأول بالنسبة لمستقبل منظمة التجارة العالمية؟ والأهم من ذلك، ما الذي تحاول الولايات المتحدة تحقيقه من خلال شل آلية تسوية المنازعات؟ تستمر غالبية التجارة العالمية وفقاً لقواعد منظمة التجارة العالمية. ومع ذلك، فإن الحمائية التي ينتهجها ترامب تشكل خطراً حقيقياً على المؤسسة. وكلاعب رئيسي في منظمة التجارة العالمية، تقوم واشنطن بتدمير مؤسسة أنشأتها كمنصة للتجارة متعددة الأطراف. لذلك نرى أن إدارة ترامب تفرض أجندة عدوانية من خلال المفاوضات الثنائية حيث يمكن أن تتجاهل التعاون المطلوب في منتدى متعدد الأطراف.
سيؤدي ضعف النظام التجاري الدولي إلى انتهاكات تجارية، مما يجبر الدول على حماية مصالحها الخاصة. ونتيجة لإجراءات ترامب، يبحث الاتحاد الأوروبي حالياً عن آليات بديلة لتسوية المنازعات. ومع ذلك ، إن مثل هذه التدابير الجذرية سوف تخلق تحديات في المستقبل. إن المسار الحالي الذي صاغه ترامب سيؤدي بالتأكيد إلى إضعاف منظمة التجارة العالمية ما لم يتم التوصل إلى حل وسط في اللحظة الأخيرة .