فتحي محمّد وبدايات النحت السوري
وُلِدَ فتحي محمّد في الثاني من شهر تشرين الأول عام 1917، في حي المشارقة الشعبي القريب من المدينة القديمة، وكان في الحي “فاخورة” يقف فتحي أمامها وينظر إلي العامل المنكب على آلته الخشبية وهي تدور، وقد قبعت فوقها كتلة طينية، يحركها العامل كما يشاء لتصبح بعد ذلك قطعة فخارية ولا أجمل منها، ثم أخذ الطفل فتحي بعض القطع الطينية ليشكل منها ما يشاء من الدمى الصغيرة. توفيت أمّه أثناء فحص الدراسة الابتدائية، وكان أبوه قد سبقها عن عمر يناهز الثالثة والسبعين، وعندما دخل فتحي إلى ثانوية التجهيز، وجد جواً ملائماً لتنمية ميوله وصقل موهبته، فاعتنى مدرسو مادة الفنية به، وشجعوه على المضي في هذا الطريق. وفي تلك الفترة، كان الاحتلال الفرنسي يسيطر على البلاد، فقاومه الطلاب بالإضراب.
كان الفنان فتحي يرسم على جدران المدرسة رسوماً نقدية ساخرة لوضع البلد، فأمر مدير المعارف بطرد 36 طالباً، كان فتحي بينهم، فاضطر أن يترك المدرسة مرغماً، لأنه لا يحتمل نفقاتها، كما أنّ أخوته بحاجة إلى من ينفق عليهم.
بدأ يعمل في نحت الخشب وحفره لتزيين الأثاث والأبواب، وأتقن هذه الحرفة لأنها كانت تدر عليه مالاً يسدّ به نفقات الحياة، ثم انتقل إلى فن النحت، وكان أوّل شيء قام بصنعه هو الزنبقة رمز الكشاف، ثم صنع تمثالاً بالحجم الطبيعي لرأس إبراهيم هنانو، زعيم الثورة ضد الفرنسيين، والتمثال موجود في ثانوية هنانو.
كان فتحي بالإضافة لعمله يقوم برسوم كاريكاتورية تنشرها إحدى الصحف، كما كان يعمل على تزيين الكتب للأطفال، ودواوين بعض الشعراء المعدّة للطبع. وفي هذه الأثناء أعدًت الجالية الإيطالية مسابقة لانتقاء طلاب لإرسالهم في بعثة دراسية إلى إيطاليا، واجتاز فتحي المسابقة بنجاح، وفاز بالمنحة التي سترسله للدارسة في أكاديمية الفنون الجميلة في روما، لكن السلطات الفرنسية عندما علمت بالأمر منعته من السفر، وسحبت الجواز منه.
تحت ضغط الحاجة إلى المال، قام الفنان بصنع تمثال لفيضي الأتاسي وزير المعارف في ذلك الزمان، ثم صنع ميدالية وتمثالاً نصفياً لرئيس الجمهورية الشيخ تاج الدين الحسيني, كما صنع تمثالاً للطبيب موريس شوفالييه، الجراح الفرنسي الذي يعمل في مستشفى القديس لويس بحلب، حيث رغبت إدارة المستشفى أن يقام تمثال نصفي له، جراء عمله في خدمة الإنسانية، واستطاع الفنان أن يبرز في الوجه علائم الطيبة ومحبة الإنسانية التي تتجلى في النظرة البعيدة الهادئة، وأن يحقق دقة في التناسب، وجمالاً في حركة الرأس، بالإضافة إلى وضوح التعبير.
عزم المجمع العلمي العربي بدمشق أن يقيم مهرجاناً أدبياً في ذكرى مرور ألف سنة على مولد أبي العلاء المعري، ودعا إليه أقطاب العلم والأدب من الأقطار العربية، وافتتح المهرجان تحت رعاية رئيس الجمهورية السيد شكري القوتلي، فنشط الفنان محمّد وراح يشتري الكتب عن حياته، ويقرأها بشغف، وأصبح يجمع صفات أبو العلاء المعري، وقد أنهى الفنان عمله مع موعد المهرجان، واستطاع أن يجسد فلسفة المعري ونفسيته من خلال تقاطيع الوجه، فبدا التشاؤم جلياً في انحدار التجاعيد، والعمق في التفكير، والكبرياء والعزة في العينين، وكان التمثال إلى جانب منبر الخطابة، وعندما رفع الستار بدا التمثال وهو بكامل روعته، وظهر الفيلسوف بجلاله ووقاره يهيمن على الحضور، وكان الأديب طه حسين بين الحضور وأعجب بالفنان ونصحه بالالتحاق بمدرسة الفنون الجميلة بالقاهرة، وزوده بكتاب توصية، وسافر الفنان إلى القاهرة في تشرين الثاني عام 1944 ودخل المدرسة بعد أن اجتاز فحصاً مبدئياً أمام أساتذة المعهد، فنال إعجابهم.
في عام 1947 فجعت البلاد بوفاة سعد الله الجابري، واستدعي فتحي من القاهرة، وعهد إليه أن يعمل تمثالاً للفقيد، فما كان من الفنان إلا أن يجمع عدداً كبيراً من صور الفقيد الشمسية واستقصى أوصافه وأخلاقه وعاداته، لينهيه في 6 كانون الثاني عام 1948، واقتنت التمثال دار الكتب الوطنية، وفي 26 أب 1948، أصدر مجلس بلدية حلب قرراً بإيفاد فتحي محمّد لدراسة الفن في إيطاليا، وعلى هذا الأساس شدّ الرحال إلى روما، وبقي فيها حتى عام 1954، عندما حصل على شهادة دبلوم شرف، وفاز بالجائزة الأولى ووقع اختيار اللجنة على تمثال فتحي لوضعه في متحف فلورنسا.
أنهى الفنان دراسته في مدرسة الفنون الجميلة، وانتسب فوراً إلى مدرسة فن الميداليات كما انتسب في الوقت ذاته إلى الأكاديمية- فرع التصوير الزيتي، وعلى هذا فقد صنع ميدالية لإبراهيم هنانو، أحد رموز الثورة السورية، وللشيخ تاج الدين الحسيني وغيرهما. ولا تقل مهارة وموهبة فتحي في فن التصوير الزيتي عنها في فن النحت، فيوجد في المتحف مجموعة من اللوحات الزيتية التي صورها أثناء دراسته، وهي تمتاز بلمستها الناعمة، وقوة الملاحظة مع حساب دقيق للأبعاد في المنظور والتشريح. وأيضاَ قام بصنع تمثال عدنان المالكي في دمشق.
عاد الفنان فتحي إلى حلب في عام 1954، وبعد فترة عيّن بوظيفة مساعد فني. كان فتحي يشكو من أمعائه وأمراضها، فدخل مستشفى القديس لويس في آذار 1958، في المكان نفسه الذي صنع فيه تمثال الطبيب موريس شوفالييه، منذ أربع عشرة سنة، وتبيّن أنه مصاب بالسرطان، أجريت العملية له، ونجحت، لكن الداء كان قد وصل إلى الكبد، وفي مساء السادس عشر من نيسان 1958 قضى نحبه، وشيع إلى مقبرة هنانو.
فيصل خرتش