كان يا ما كان في غرفة السّلطان
إذا كان الأدب السّردي الروسي قد خرج من معطف “غوغول”، فإنّ الكثير من نتاجات الفنّ والأدب الفانتازيّ العالمي قد انبثقَ من تحت عباءة السرديّة التّاريخيّة الكبرى “ألف ليلة وليلة” التي مازالتْ تلهب مخيّلةِ الأدب الإنساني على مرّ العصور. تلك العباءة الموشّاة بكلّ صنوف الزّخارف والرّسوم المبهرة، والغنيّة بكلّ أساليب التّخييل والإدهاش الفنّي السّردي الذي وصلنا على لسان الضّمير المؤنّث “شهرزاد”، التي أخضعتْها الثّقافة الذّكوريّة لامتحانٍ صعبٍ، وضِعَتْ فيه حياتها على المحكّ، حيث الضّحيّة بحكمتها ورشاقة سردها الشّائق، تدفع عنها سيف الجلّاد. هكذا كانت المعادلة المرعبة: “هاتِ رواية وإلّا قتلتكِ” على مدى تلك اللّيالي الطوال. وقد تُرجم الكتاب إلى كلّ لغات العالم الحيّة تقريباً، ووصفته دائرة المعارف العالميّة الفرنسيّة بأنّه أكثر آثار الأدب العربي شهرةً عالميّة، إذْ استقتْ من عوالم شخصيّاته الأسطوريّة “السندباد البحري، علاء الدين ومصباحه السّحري، شهرزاد” آدابٌ وفنونٌ كثيرة، كـ “الرواية، المسرح، السينما، الرسوم المتحركة،رموز الإعلانات الدعائيّة، الأدب الفانتاستيكي، أدب الخيال العلمي الخ. الكثير من أدواتها وأساليب سردها، فمنذ ترجمته على يد المستشرق الفرنسي “أنطون جالون” أوائل القرن السابع عشر وحتى الآن، وهو يثير الجدل والدّهشة والدلالات العالية، وهاهو “فولتير” الفرنسي يعترف قائلاً: “أنّه لم يزاول فنّ القص إلّا بعد أن قرأه أربع عشر مرّة، ويتمنّى “استندال” أن تمحى آثاره من ذاكرته، وهو الذي قرأه عشرين مرّة، لكي يعيد قراءته من جديد مستعيداً المتعة لعشرين مرّة أخرى”. أمّا الصّحفيّ “مايكل ديردا” فقد سلّط الضّوء على ما كتبه المستعرب “روبرت أروين” عنه، موضّحاً الأسرار المحيطة بأصوله وتواريخ ترجمتها، وتسليطه الضّوء على حياة العرب في القرون الوسطى، وتأثيره على الأدبين الأمريكي والأوروبي بمقال له في “الواشنطن بوست” بعنوان “كان يا ماكان في غرفة السلطان” يقول: “يعدّ كتاب اللّيالي العربيّة، مثله مثل الكتب المقدّسة واحد من تلك الكتب التي يظنّ الناس أنّهم على دراية بها، أو على الأقلّ لديهم قدر ولو ضئيل من الإلمام بها، وذلك على الرغم من أنّهم لم يقرؤوا من محتوياتها شيئاً. هذا لأنّه مثل الإنجيل يقف صفّاً واحداً مع أمّهات الكتب الأكثر تأثيراً على مرّ العصور، وإلّا فدلّني على عمل أدبي آخر غير أوروبي له تأثير في الثقافة الغربيّة يفوق تأثير اللّيالي العربيّة. منذ ترجمة الكتاب ووجوده في متناول أوروبا وألف ليلة وليلة لا تكفّ عن إبهار الغرب برؤية للعالم زاخرة بكلّ ما هو مذهل، ومشبع للرغبات”.
شكّل أسلوب “ألف ليلة وليلة” المليء بالمفارقات والسخرية اللّاذعة والتّشويق والنّقد المبطّن للمستبدّين، وديناميكيّة سرده المتداخل إلهاماً لكبار كتّاب أمريكا اللاتينيّة الذين أسّسوا لتيّار الواقعيّة السحريّة “كويلو وماركيز وغيرهم”. تقول إحدى قصص اللّيالي، التي وظّفها الروائي والناقد الإيطالي “أمبرتو إيكو” في روايته الشّهيرة “اسم الوردة”، بأنّ ساحراً ماهراً أعدمه الملك ظلماً، لكنّه ترك وراءه كتاباً مسموماً أسماه “سرّ الأسرار” بقصد تعذيب الملك وقتله، وعندما فتح الملك الكتاب وجد بعض صفحاته ملتصقاً ببعضه البعض فكان يُدخل إصبعه إلى فمه ويبللّها بلعابه ثمّ يدخلها بين الصفحات ليفتحها، لكنّه لم يجد شيئاً يُقرأ فيها، فيواصل منهمكاً عمله وقد عقدت الدهشة لسانه منقّباً في صفحات الكتاب. بينما كان السّم يتسلّل إلى داخل جسمه ببطءٍ، ليموت في النهاية بشرّ أعماله.
وبقصد الإبهار والتّشويق نجحتْ السّاردة “شهرزاد” بترك قفلات حكاياتها معلّقة دوماً، ومشرعة على السؤال عمّا يمكن أن يحدث في الليلة القادمة، لتزيد المتعة والتحريض على المتابعة. تقول حكاية عن عاشقين زانيين يحاولان إقناع المارد القاتل بأنّهما غريبان عن بعضهما البعض، ولا توجد بينهما علاقة. فيأمر المارد الرجل بأخذ السيف وقطع رأس المرأة، مقابل تصديقه بأنّه لا يعرفها. فيأخذ الرجل السيف ويقفز نحو المرأة، وهنا تنتهي الليلة الخامسة والأربعون. ثمّة أصول كثيرة تستمدّ منها اللّيالي مرجعيّتها وحكاياتها المتنوّعة: “آداب فرعونية، يونانية، سنسكريتيّة، وفارسية، هنديّة، وآداب أوروبية وسيطة وتتريّة وآداب قديمة”، فطريقة التّشويق مثلاً، التي استخدمتها “شهرزاد” مستمدّة كما قِيل من قصّة هنديّة أقدم تسمى “سوكاسا بتاتي” تقول بأنّ الببغاء نجح في منع زوجة صاحبه من الخروج لمقابلة خليلها في غيبة زوجها حيث كان يسرد عليها قصّة شائقة ويتركها معلّقة دون نهاية حتى اليوم التالي.
وكذلك أسلوب التّداخل القصصي في اللّيالي فيعود بجذوره إلى “البانكا تانترا” أمير الحكايات الخمس في السنسكريتيّة، التي كتبها الحكيم الهندي “بيدبا” للملك الظالم “دبشليم” وشكّلتْ مداميك كتاب “كليلة ودمنة” الذي نقله إلى العربيّة “ابن المقفع”. وحتى شخصيّة “شهرزاد” السّاردة المحوريّة ذاتها، فتشبه شخصية الملك “سايروس” في “التوراة” الذي كان يرى عروسه لليلة واحدة فقط، حتى زواجه من “استير” ابنة الوزير التي خلبت لبّه فأبقاها على قيد الحياة. ويبقى التّصميم السّردي في اللّيالي من حيث جماليّة البناء أشبه بعنقود العنب الغافي، الذي تتوضّع حبّاته بهندسةٍ لافتةٍ فوق بعضها البعض، متدلّية من خيوط خضراء رفيعة، كجداول الماء، تمدّ الدّالية بنسغ الحياة، والقارئ/ المتلهّف بالنّبيذ.
أوس أحمد أسعد