سياق عالمي خطير
مرّة جديدة تضع واشنطن العالم بأسره على بوابة الجحيم بإصرارها على إصدار أحكام عرفية، وتنفيذها، خارج إطار القانون الدولي بحق من تراه، بمنظورها النفعي، عقبة كأداء أمام مشاريعها المستمرة لـ”النهب المستدام”، والمنفرد، لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.
ومرّة جديدة ترتفع رهانات الحرب الكبرى، في المنطقة والعالم، جرّاء تصرف رؤسائها كقراصنة حقيقيين، ولكن بربطات عنق ملوّنة، فهي تقتل مسؤولاً رسمياً في دولة أجنبية وعلى أراضي دولة أجنبية أخرى، وترفقه بإعلان رئاسي رسمي..!!، وهي أيضاً تحاصر دولاً على امتداد رقعة العالم، وتعاقب كيانات وأفراداً، وتخنقهم اقتصادياً وفق “فرمانات” منفردة لوزارة خزانتها، لتطيح بذلك كل القواعد التي اتفق عليها عالم ما بعد الحرب الثانية، سواء المكتوبة كتابياً كقانون دولي، أو غير المكتوبة كعرف دولي، وإذا كان من الصحيح أن هذه القواعد، بشقيها، لم يقدّر لها، بحقيقة الأطماع المستمرة للقوى الكبرى، أن تمنع الحروب الصغيرة بالوكالة، لكنها على الأقل ساهمت في منع الحرب الكبرى التي حذّر من تبعاتها الشاملة شخص بمستوى “آينشتاين” بقوله: إنه لا يعلم ما هي الأسلحة التي ستستخدم فيها، لكنه يعلم أن الحجارة والعصي هي الأسلحة التي ستستخدم في الحرب التي تليها.
وإذا كان العالم قد “تعايش”، ومنذ زمن بعيد، مع “البلطجة” الأمريكية باعتبارها قدراً لا راد له، فإن مكمن خطورة “بلطجة” اليوم يكمن أولاً في البيئة الاستراتيجية المعقدة التي ارتكبت فيها والمتزامنة مع لحظة استراتيجية لا تقل تعقيداً عنها، كما يكمن ثانياً في محورية الشخصية المستهدفة، دوراً ومكانة، في هذا التعقيد كله.
بهذا المعنى أصبح من الواضح للجميع أن واشنطن التي اعتادت على “الحكم من خلال الفوضى” فتحت باغتيال الشهيد سليماني ورفاقه مرحلة أكثر تعقيداً أمام جميع الأطراف، المستهدِفة والمستهدَفة، بغض النظر عن مرادهم الحقيقي منها، فـ”ترامب” المقامر أرادها كلحظة إعادة إنتاج بيئة إقليمية، ومن خلفها بيئة جيوسياسية عالمية، تكرّس الهيمنة الأمريكية وتوفّر مظلة حماية استراتيجية لوجود إسرائيل وأمنها، كما توفّر له، في الآن ذاته، دعماً داخلياً في معركة العزل التي تواجهه، فيما يريدها “أهل” سليماني – وخاصة بعدما ظهر ضعف “المجتمع الدولي” وقانونه أمام إجرام الإدارات الأمريكية – في اتجاه آخر بدايته تعزيز ترابط ساحات المواجهة، ونهايته إخراج المحتل من المنطقة بأكملها.
بهذا الإطار نفهم تحذير بعض “عقلاء” الداخل الأمريكي من “مآلات خطوة كهذه” كما نفهم قولهم: إن “هناك عالماً كاملاً من الاحتمالات الآن” في مقابل تهديد ترامب بـ”المعدات الجميلة والحديثة .. دون تردد”، فيما يبدو هذا التهديد، إضافة إلى كونه تعبيراً صريحاً عن طبيعته المتفلّتة من كل القيود والأنظمة، تعبيراً واضحاً عن خوف من انزلاق الأمور في اتجاه سيناريو غير محسوب المخاطر، وغير مضمون النتائج، لأن “ألعاب السلاح مقامرات لا يمكن التحكم فيها”، وهو خوف لا يوازيه إلا الخوف الذي يعبّر عنه كتّاب البترودولار العرب في منابرهم الخليجية من أن تؤدي هذه المواجهة إلى خروج أمريكي مذل من المنطقة، لأنهم يعون جيداً أن قدر “ولاة أمورهم” بعد هذا الخروج – كما قدر “إسرائيل” – التآكل والاهتراء، وتلك معضلة يجد فيها هؤلاء أنفسهم منذ أن فقدت هذه المنطقة، بحكامها وشعوبها، “عقلها السياسي”، لتضع نفسها، وفق “متلازمة ستوكهولم” الشهيرة، رهينة للجهة التي يصدف دوماً أنها تقع في الجهة المضادة للمصالح الحقيقية لشعوب المنطقة وأبنائها.
بيد أن مسار المرحلة الماضية، إقليمياً ودولياً، يشي بأن هناك تغيّراً مستمراً في سيرورة الأحداث المتلاحقة لصالح شفاء الشعوب والقوى الحيّة من هذه “المتلازمة”، وأول بوادرها وحدة الساحات، الإقليمية والدولية، ولو بصورتها الأولية، بهدف الخلاص من هذه “البلطجة” المتمادية، وثانيها، أن “المعدات الجميلة والحديثة” لم تعد حكراً على طرف دون الآخر، والأهم أن قرار استخدامها قد صدر، وترامب الذي خاض معركته الانتخابية بشعار “الانسحاب من الحروب غير المنتهية في الشرق الأوسط” أشعل بالأمس حرباً لن تنتهي على ما يريد.. وإن غداً لناظره قريب.
أحمد حسن