عليها تسعة عشر
د. نضال الصالح
تسعة عشر تمضي من هذه الألفية المثخنة منذ بدايتها بألف جرح وجرح، من.. إلى.. حتى ما لا يبدو آخراً في متوالية الخراب العربيّ، الأكذوبة الأكبر في التاريخ الحديث، الربيع العربيّ الذي حمل معه الموت والخراب والدمار والدماء إلى غير جزء من الجغرافية العربية، وصعدَ بأنظمة غُفل ودول غُفل وممالك غُفل إلى صدارة صناعة القرار الدولي، وبأيديولوجيات طاعنة في فواتها الحضاريّ إلى الواجهة من العقل العربيّ الذي بدا، فيما مضى من السنوات الفائتة، مستغرقاً في الموات.
تسعة عشر كأنها أيام بسبب ما ازدحم فيها من الأحداث، كان أشدّها وطأة ووحشية أكثر شتاءات العرب تغوّلاً في الجائحات، من شتاء ما سُمي بثورة الياسمين في تونس الذي جاء بأبشع الحركات الأصولية إلى السلطة إلى شتاء مصر الذي لم يكن أحسن حالاً من مثيله التونسي، فكان العيّاط، إلى الشتاء السوري الذي ازدحم فيه مئات آلاف ممّن سُمّي بالجهاديين من مختلف كهوف الأرض ومغاورها، إلى.. إلى الدم العربي المسفوح في أجزاء مختلفة من الأرض العربية، في مصر وليبيا وسورية والعراق واليمن.
تسعة عشر كان معظم المثقفين العرب خلالهما مستسلماً لحال من العطالة التي لم تشهد الثقافة العربية مثيلاً لاستغراقه في العدم أو ما يشبه العدم، ومنقسماً على نفسه نحو قضايا أمته وأوطانها، وأحياناً شاهد زور على الحقّ والحقيقة، ولا يعنيه من أمر هذه الشتاءات سوى ما يحفظ له جيبه متخماً بالمال الدنس، ولسانه بالقول الدنس، ورأسه بالموقف الدنس.
تسعة عشر وثمّة من المثقفين العرب مَن لم يدرك بعد أنّ “أمريكا هي الطاعون والطاعون أمريكا”، وأنّ المثقف الحقّ مبادئ وقيم ومواقف، ولاسيما في المنعطفات التاريخية الكبرى التي تخصّ أمته ووطنه، وأنّه لا يرتضي لهما غير الكرامة التي تعني كرامته بآن، وغير البقاء تحت الشمس كما يليق بهما من الحياة.
تسعة عشر ومعظم المثقفين العرب أحد أربعة: مصفّق لهذا الشتاء العربي الطويل، وعاض بنواجذه على قيم الحقّ والخير والجمال، ومتقافز بين غير خندق، ومتفرّج أو مستسلم للصمت. وبين هؤلاء الأربعة مَن يجري ولا يُجرى معه، وثان يخوض وسط المعمعمة، وثالث لا تشتهي أن تسمعه، ورابع لا تستحي أن تصفعه.
تسعة عشر مرهقة بكتبة وأشباه كتّاب، وبمستثقفين لا مثقفين. خسرت الثقافة العربية خلالها الكثير من علاماتها المضيئة والفارقة في تاريخها الحديث، وحلّ محلّ هذه العلامات، في الإعلام وغير الإعلام، مَن لا يميز الألف من العصا، ومَن لا يتقن من نحو العربية وصرفها شيء، ومَن يرى بعيني مصلحته لا مصلحة وطنه، ومَن لا يتردد في قتل الآخر المختلف وفي التدليس والافتئات ليبقى على قيد صناعة الزيف. تسعة عشر كأنّ “عليها تسعة عشر”، غير جحيم في صورة ربيع، وغير موت عربيّ بصورة حياة، وغير باطل في صورة حقيقة، وغير دم في صورة وردة! وبعد، وقبلُ، أفما آن للعقل العربيّ أن يستيقظ من شتائه الطويل!