حصارات الصورة
محمد راتب الحلاق
استطاعت التقنية الحديثة أن تفرض المزيد من الحصارات على الإنسان، وأن تجعله مكشوفاً أمام الأقوياء والمتنفذين، وأن تحوله إلى كائن مجرد من الخصوصية، وإن تقوم بإلهائه ببعض الشعارات البراقة الخاوية من أي مضمون حقيقي.
ومن هذه الحصارات خضوع الإنسان المعاصر لإملاءات الإعلام والإعلان، التي ترى أن شكل السلعة أهم من كفاءتها، وأن طريقة ترويج الأفكار وتسويق السياسات أهم من مصداقيتها؛ مما دفع الدول وبعض الشركات العملاقة إلى إنشاء المزيد من وسائل الإعلام، واستغلال إمكانات هذه الوسائل إلى الحدود القصوى، بغض النظر عن أية مسؤولية أخلاقية أو إنسانية.
وقد تفوقت وسائل الإعلام المرئية، نظراً لمخاطبتها عدداً أكبر من الحواس، فقامت بإشغال العيون، وإثارة الغرائز، لصرف العقول عن التفكير، وعن المقارنة والتحليل والمحاكمة.. وقد نجحت هذه الوسائل في استقطاب المشاهدين نجاحاً باهراً.
واغرب ما في الأمر أن تنطلق أشد القنوات ضحالة، وأكثرها ابتذالا، من أماكن كنا نظن بسذاجة، وصلت إلى حد الغفلة، أنها الملاذ الأخير للقيم العربية، لكن هذه القنوات لم تتورع عن المتاجرة بأجساد الحسناوات، فتعرضها كاسية عارية، مع شيء من التلاعب بطبقات الصوت، ليطمع الذين في قلوبهم مرض.
وتزاحم هذا النمط من القنوات في سماء الوطن العربي بشكل سرطاني، إلى جانب قنوات الشعوذة والتنجيم وفك السحر، مع غياب البرامج الثقافية والمعرفية، أو تهميشها إلى الحد الأدنى، وتقديمها بطريقة غير جذابة، بل منفرة. والمؤسف أن بعض القنوات الرسمية قد قامت بالتقليد الساذج والمتخلف لتلك القنوات، من دون أن تحفل بحقوق متابعيها في الثقافة والمعرفة، أو أن تعترف بكرامتهم كبشر، فهم ليسوا أكثر من مجرد أوعية فارغة جاهزة لاستقبال ما يوجه إليهم عبر هذه الوسائل.
ومما ساعد في نجاح القنوات الموجهة توظيفها لآخر ما توصلت إليه التقنية من أساليب، واعتماد سياسة إعلامية (وإعلانية) قوامها إرضاء العيون والحواس حتى التخمة، من خلال الأشكال الباهرة، والألوان الفاقعة، والأضواء الكاشفة، والأجساد الجميلة والجريئة، التي تتخفف من القيم (والثياب) ما أمكن.. والاستغناء بالظاهر عن الحقيقي، وبالمزيّف عن الموضوعي، شرط أن يكون الظاهر والمزيف مغلفاً بغلاف جميل. وإذا كان الإعلان قادراً على تسويق السلع الأقل كفاءة وتصريفها مع وجود ما هو أفضل منها في الأسواق، فإن الإعلام المقتدر قادر على ترويج اللاشيء، بعد أن يتم وضعه في إطارات خادعة، والتعبير عنه بمصطلحات هائلة، ولاسيما حين تخاطب هذه المصطلحات الجوانب التي حرم منها الناس.
فالتقنية الحديثة وضعت بتصرف قنوات الإعلان قوة هائلة وفعالة بالرغم من نعومتها الظاهرة، مما مكنها من السيطرة على الزبائن والأتباع، من خلال إغوائهم وإغرائهم، أو من خلال السيطرة المعنوية عليهم، ومصادرة قدرتهم على الانتقاد والتفكير السليم.. في عملية ترويض ممنهجة، تجعلهم يسلكون السلوك الذي يرضي الأقوياء والمتنفذين، ويدركون الأمور والأحداث من الزوايا التي يرغب بها هؤلاء المتنفذون. والدرس الذي أتقنته وسائل الإعلام يتلخص بأهمية الاعتماد على الصورة، وأهمية الشكل الخارجي، حتى لقد قيل: إن جمال مذيعة نشرة الأخبار أهم من مضمون النشرة، وطريقة عرض الصور والآراء والأفكار والأحداث أهم من حقيقتها وموضوعيتها. المهم تقديم صورة متقنة، ترضي حواس المتلقي، وتشغل عينيه، وتخاطب غرائزه، دون أن تترك له فرصة للتفكير أو للمحاكمة. وبهذا الشكل ذي الظاهر الجميل، والمصنّع بعناية، يتم احتلال العيون، ومن خلال العيون يتم الاستيلاء على النفوس والتشويش على العقول.