العمارة الملكية في بلاد الرافدين
يعتبر التمدن: تحول القرى إلى مدن أو ظهور المدن، هذا التعريف البسيط للتمدن يقودنا إلى سؤال: ما التغيرات العمرانية التي ظهرت في منطقة ما ودفعتنا للقول أن هذه المنطقة تحولت من قرية إلى مدينة؟ فهل يعتبر وجود السور السميك الذي يحيط بالمدينة لحمايتها، وبوابات المدينة الضخمة التي تتوزع على هذا السور، والمباني الحكومية الفخمة التي تدل على وجود سلطة (القصور والمعابد) داخل المدينة، والمنازل الكبيرة التي تتألف من أكثر من طابق في بعض الأحيان، والشوارع العريضة التي تخترق المدينة، والورش التي اكتشفت في بعض المدن، هي من أهم التغيرات التي تؤكد حدوث تحول من المجتمع القروي إلى المجتمع المتمدن وظهور ما يسمى بالتمدن.
إذا كان القصر هو أحد أهم أركان التمدن فما هي علاقة القصر بالمحيط الخارجي الذي كان يحوي الأركان الأخرى للتمدن؟ هل كان منعزلاً عن هذا المحيط؟ وإذا لم يكن منعزلاً عنه كيف كان يتواصل معه؟ هذه الأسئلة وغيرها الكثير يتم الإجابة عن بعضها ويسلط الضوء على نقاط أخرى الكتاب الصادر عن وزارة الثقافة- الهيئة العامة السورية للكتاب والذي حمل عنوان “العمارة الملكية في بلاد الرافدين” للدكتور حسان عبد الحق.
اختص الكتاب بالعمارة الملكية بفترة سلالة أور الثالثة إلى نهاية العصر البابلي القديم 2112- 1595 ق.م، وتعتبر هذه الأبحاث همزة وصل بين الماضي والحاضر لنقله إلى أجيال المستقبل، كما تعد هذه الفترة أكثر أهمية من الفترات الأخرى العائدة إلى عصر البرونز فيما يتعلق بالعمارة الملكية، إذ شهدت بلاد الرافدين ازدهاراً كبيراً في هذا المجال، وزاد عدد القصور في مدنها، وشهد القصر تطوراً كبيراً من الناحيتين المعمارية والوظيفية أصبح مركز المملكة، يسكنه الملك مع عائلته كبيت له، ويدير منه مملكته سياسياً وإدارياً واقتصادياً، ومما يؤكد تطوره تشييده وفق مخطط مسبق وتقسيمه من الداخل إلى عدة أقسام بطريقة مدروسة، وربط هذه الأقسام بعضها ببعض من خلال الأبواب التي توزعت على جدرانه الداخلية وإعطاء كل قسم وظيفة تتناسب مع تجهيزاته ومساحة حجراته وأشكالها. يقسم الكتاب إلى ثلاثة أبواب رئيسية: يتناول الباب الأول دراسة معمارية لقصور جنوبي بلاد الرافدين، ويتألف من خمسة فصول، يحوي كل منها دراسة مفصلة عن أحد القصور، التي رتبت من الأقدم إلى الأحدث: قصر أور، قصر السلالات الأمورية في تل أسمر، القصر والمبنى 50 في لارسا، قصر سينكاشيد في أوروك. وأورد الكاتب مقدمة عامة عن الموقع الأثري، متناولاً فيها تاريخه وموقعه الجغرافي وتاريخ تنقيبه وحركة التمدن فيه، وما يجذب الانتباه في هذا القسم من البحث قصر تل أسمر الذي لقي تجديدات كثيرة خلال فترة استخدامه، حيث نتج عنها ست مراحل معمارية تنقسم إلى نوعين: النوع الأول يقدم لنا عدة مراحل معمارية تنسب كل واحدة منها إلى ملك من الملوك، ويعرض لنا النوع الثاني مراحل معمارية أخرى يعود كل منها إلى عدة ملوك وليس إلى ملك واحد.
في حين يفتح الباب الثاني البحث حول قصور شمالي بلاد الرافدين، وقد اتبع الباحث المنهجية المتبعة نفسها في القسم الأول، ويضم هذا القسم سبعة فصول للقصور التالية: قصر ماري الملكي والشرقي الصغير، قصر (A) في توتول، قصر آشور، قصر شامشي أدد وقصر كارني ليم في تل ليلان، قصر تل الرماح. وأكد الباحث على نقطة مهمة أنه من الناحية العلمية يعتبر قصر ماري الملكي أكثر أهمية من القصور الأخرى التي يدرسها هذا الباب، والسبب في ذلك أنه محفوظ جيداً ويحوي ترتيبات مهمة تساعدنا في تحديد وظائفه، ما يمكننا من تقديم صورة واضحة عن العمارة الملكية في نهاية الألف الثالث وبداية الألف الثاني في بلاد الرافدين.
بينما في الباب الأخير يقدم د. عبد الحق دراسات مقارنة بين المباني الملكية التي تعود إلى عصر سلالة أور الثالثة والعصر البابلي القديم، وبين القصور الأخرى التي تؤرخ بعصر البرونز داخل البلاد وخارجها، تساعد هذه المقارنات في معرفة المواقع التي شيدت فيها هذه القصور والنظام المعماري المتبع بالإضافة، وتحديد وتوضيح الوظائف الرئيسية للمباني الملكية الرافدية، وتبين التشابهات والاختلافات بين القصور الرافدية والقصور الشرقية الأخرى، وهو ما يساعد في تحديد المباني الأكثر تطوراً والأعظم مكانة في الشرق الأدنى، لافتاً إلى أن هذا الباب يتألف من ستة فصول: تقنيات البناء، الإضاءة، الطابق العلوي، العلاقة بين عالم القصر والعالم الخارجي.
عُلا أحمد