المناورات البحرية الصينية الروسية الإيرانية.. خطوة نحو تحالف استراتيجي
د. معن منيف سليمان
تعدّ المناورات البحرية التي جرت أواخر الشهر المنصرم بين الصين وروسيا وإيران في المحيط الهندي وبحر عُمان خطوة إستراتيجية بالغة الأهمية، تتيح المجال أمام قيام تحالف قويّ جديد بين الدول الثلاث من أجل الحفاظ على مصالحها المشتركة في مواجهة التهديدات الأمريكية، وتوحيد قدراتها من أجل توفير الأمن والاستقرار لتحلّ بدلاً من السياسات الأمريكية الرعناء التي تريد رهن المنطقة بمغامرات غير محسوبة، ما يبشّر بولادة نظام جديد متعدّد الأقطاب في الشرق، ومع قبول الدعوات لإلحاق بعض الدول في هذا التحالف سيصبح مشروعاً قابلاً للتحقق.
إن كلاً من إيران وروسيا والصين تعدّ من القوى البحرية الكبرى التي تتعرّض لتهديدات وتواجه أعداء مشتركين، وعلى رأسهم التهديد الأمريكي، حيث سيتمّ إنهاء هذه التهديدات في مختلف المناطق البحرية في العالم. ومن هذا الأساس انطلقت مناورات بحرية مشتركة بين إيران والصين وروسيا ما بين 27- 30 كانون الأول الماضي كان مسرحها شمالي المحيط الهندي وبحر عُمان، وسط تصاعد التوترات في المنطقة بين طهران وواشنطن، خاصة في منطقة الخليج العربي، حيث أرسلت الولايات المتحدة المزيد من القوات العسكرية بعد هجوم وقع على ناقلتي نفط في بحر عُمان، إضافة إلى إسقاط طائرة استطلاع أمريكية حديثة بصاروخ إيراني فوق مضيق هرمز، وازدادت حدّتها بعد الهجوم على منشآت نفطية سعودية، ألقت الولايات المتحدة على إيران اللوم جزافاً فيها.
وعلى إثر ذلك، دعت واشنطن إلى تشكيل تحالف دولي لحماية الملاحة الدولية في مياه الخليج ومضيق هرمز، وهو المقترح الذي رفضته طهران في مناسبات عدّة، مؤكّدة أن تأمين الملاحة في مياه الخليج مسؤوليتها هي بالتعاون مع دول المنطقة، وأن وجود قوات أجنبية في المنطقة سيزيد من التوتر وعدم الاستقرار.
وفي ظلّ السياسات الغربية والضغوط الاقتصادية والسياسية والدولية والإقليمية التي تفرضها عليها أمريكا، كان لابدّ لإيران أن تدخل في حلف استراتيجي عسكري وأمني طويل الأمد مع الصين وروسيا من أجل الحفاظ على أمنها وتأمين مصالحها الإقليمية والدولية.
إن اصطفاف الدول الغربية في مفاوضات مجموعة (5 +1) التي استمرّت أكثر من اثني عشر عاماً، أثبتت عملياً أن إيران لا يمكنها أن تعتمد على الغرب بشكل خاص، كما أن خروج واشنطن من الاتفاق النووي وفرضها عقوبات اقتصادية خانقة وأحادية الجانب على طهران أثبت مجدّداً أن على إيران التحرّك بسرعة نحو الشرق.
ومن جهة موسكو فإن المناورات تشكّل منطلقاً لضمان دورٍ روسيّ فاعلٍ في المشاركة بحماية خطوط إمداد مصادر الطاقة للعالم كلّه. فمنطقة المناورات يمرّ منها أكثر من /40/ بالمئة من إنتاج النفط المصدّر للعالم عبر مضيق هرمز، كما أن موسكو ترى أن أفضل نموذج لإرساء الأمن يتمثّل بمساهمة بلدان المنطقة نفسها في هذا المجال، مع وجود تفهّم روسي إيراني للأفكار. وفي هذا الصدد قال محمد جواد ظريف وزير الخارجية الإيراني: “طرحنا لحفظ أمن الخليج يشابه الطرح الروسي إلى حدّ ما، وهو لحماية كل دول الخليج وليس لإيجاد توتر بين دول الخليج”.
وحيث يشغل الروس دوراً حسّاساً في مواجهة الموقف الأمريكي غير المتوازن في المنطقة، لناحية انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي مع إيران، أو لناحية فرضها عقوبات جائرة على العديد من الدول ومن ضمنها روسيا وإيران والصين، وذلك على خلفيات تجارية ومالية تنافسية غير محقة، فإن لاشتراك روسيا في المناورة مع كلّ من الصين وإيران بعداً استراتيجياً واسعاً، يستهدف بالأساس واشنطن. وهنا يبرز الكلام الروسي عبر المتحدثة باسم وزارة الخارجية “ماريا زاخاروفا” التي أكدت أن روسيا والصين وإيران تقوم بحماية المنطقة علناً ووفق القانون الدولي، ومنخرطة في ضمان الاستقرار والأمن ومكافحة الإرهاب.
وإضافة إلى ذلك، فإن من مصلحة روسيا عدم إسقاط إيران، لأن من شأن ذلك إذا تمّ أن يؤدّي إلى تطويق روسيا من الجنوب، بعد أن وصل حلف شمال الأطلسي “الناتو” إلى حدودها الغربية. وبالتالي فإن تدعيم التعاون مع إيران يجنّب موسكو الوقوع في خطأ جيوسياسي كبير، ارتكبته في ليبيا من قبل.
أما بالنسبة إلى الصين، فإن حماية مشروعها الكبير “الحزام والطريق” يتطلب تناغمها مع دول إقليمية وعالمية مؤثّرة ومناهضة للسيطرة الأمريكية، وهي في الوقت نفسه تشكّل متنفساً لبكين أمام محاولات تطويق صعودها المستمر، بتغذية صراعاتٍ داخلية وإقليمية في كلّ من “تايوان” و”هونغ كونغ” تؤدّي إلى مشاغلتها واستنزاف قدراتها. وتؤدّي المشاركة الصينية من جانب آخر إلى خطوة مهمّة لحماية وارداتها من مصادر الطاقة المارة في المحيط الهندي، وهي المستهلك الكبير للنفط والغاز كمصدر حياةٍ لنموها المتواصل. وحيث تتبع واشنطن ضدّ الصين إجراءات لها طابع العقوبات التجارية وزيادة الرسوم على البضائع الصينية، أو النكايات لناحية تحضير مشاريع للاستغناء عن المعادن الأرضية النادرة من الصين.
كل ذلك يدفع الصين، إضافة طبعاً للبعد الأمني المرتبط بحماية معابر وخطوط نقل النفط، أو للبعد العسكري المتمثّل بحصولها على فرصة تجربة قدراتها البحرية والاستفادة من خبرات دول متقدمة في مجال العمليات البحرية مثل روسيا وإيران، أو للبعد الاستراتيجي والمتمثل بميدان بحري هو في صلب وعمق المشروع الصيني (الحزام والطريق) أو طريق الحرير الصيني، يدفعها كل ذلك للانخراط بشكل فاعل في المناورة المشتركة مع إيران وروسيا في المنطقة الشمالية من المحيط الهندي.
تُظهر تصريحات المسؤولين للدول الثلاث أن هدف المناورات المشتركة التي شملت مساحة تبلغ 17 ألف كيلومتر، هو ترسيخ الأمن وأركانه في المنطقة، وتعزيز أمن التجارة البحرية الدولية، ومواجهة قراصنة البحر والإرهاب البحري، وتبادل الخبرات العملانية والتكتيكية. في حين يرى مراقبون أن هذه المناورات تأتي ردّاً من الدول الثلاث على خطط الولايات المتحدة الأمريكية في القيام بمهمّة بحرية لحماية السفن في مياه الخليج.
وحول أهمية منطقة المناورات فإن المحيط الهندي يعدّ ثالث أكبر محيط في العالم وتطلّ عليه دول مهمّة جداً وتتضمن المضائق الحيوية الثلاثة: وهي باب المندب، ومالاجا وهرمز التي تعدّ بمثابة المثلث الذهبي في المنطقة، وما يعنيه ذلك من اشتراك دول المناورة في حفظه، حيث تشكّل المناورات وتعاون الجيوش الثلاثة أساساً جماعياً لمواجهة الأسطول الخامس الأمريكي المتمركز والنشط في المنطقة، ولخليج عُمان حساسية خاصة لأنه يرتبط بمضيق هرمز، الذي يمرّ عبره خُمس النفط العالمي ويرتبط بدوره بالخليج العربي.
كان يمكن أن ينظر لهذه المناورات في سياقاتها كتدريبات اعتيادية بين بكين وموسكو وطهران ضمن تعزيز قدراتها العسكرية، لكنها أتت في وضع متقلّب ومشحون مع الولايات المتحدة ما جعلها تحمل رسالة قوة وجاهزية ضدّ التهديدات المشتركة، مفادها أن هذه الدول لن تترك مستقبل محيطها في أيدي الأمريكيين وحدهم، وأنها سوف تضطلع في سياساتٍ تحقق مصالحها السيادية كأولوية من خلال التعاون بينها، وعدم ترك الفرصة لواشنطن لتأخذها فرادى، الواحدة تلو الأخرى، وضرورة تجنّب زيادة التوتر وإشعال الحروب في المنطقة، وأن ضمان حرية تدفّق الطاقة لم يعد شأناً أمريكياً أو غربياً بحتاً.
وفي هذا السياق كتبت صحيفة “غلوبال تايمز” الحكومية في الصين في مقال لها، وصفت فيها المناورات المشتركة بين إيران وروسيا والصين في مياه المنطقة بأنها رسالة إلى أمريكا. وقالت الصحيفة: التلويح بالخيار العسكري في وجه الدول المناوئة ليس الحل، وخاصة فيما يتصل بالبرنامج النووي الإيراني، فإن الرسالة بأن الحوار هو السبيل لحلحلة العقد وليس الحرب.
الرسالة الإيرانية إلى الأمريكيين واضحة، وقد لخّصها مساعد قائد العمليات في البحرية الإيرانية عندما قال إن “أهمّ مكاسب المناورات هو التأكيد أن الجمهورية الإسلامية لا يمكن عزلها”. وأن إيران، واستناداً إلى هذا التحالف، لم تعد تلتزم حدودها الإقليمية، وبدأت تتحرك باتجاه تبنّي سياسة عابرة، وأنها أصبحت قوية لدرجة أن القوى العظمى الإقليمية، تجري معها مناورة بحرية كبيرة. وأن أولوية طهران تتمثّل في التعاون الجماعي إقليمياً لتأمين الأمن في المنطقة، ولكنها لن تقف مكتوفة الأيدي إذا أراد البعض الانخراط في مخططات أمريكا والعبث بأمن هذه المنطقة.
المعادلة الجديدة هي خطوة على طريق التحالف بين إيران وروسيا والصين، تعزّز التنسيق العسكري، وتواكب تطوير المصالح الاقتصادية، وتحمي مشروعات بكين وطهران وموسكو التي ترسم لمستقبل هذا الجزء من العالم، ولمستقبل النظام العالمي ككل. التحالف العسكري الجديد حديث الولادة يمكن أن يكون منافساً قوياً وبديلاً للمشروع العسكري الأمني الأمريكي الذي رفع شعار الحفاظ على أمن الخطوط البحرية الاقتصادية في مياه الخليج العربي. ولاشك أن التحالف سيسعى نحو إلحاق دول جديدة في هذا التحالف الجديد، وفيما لو صادف هذا السعي الجديّ النجاح عندها يمكن القول إن ما وصفه قائد القوى البحرية الإيرانية “حسين خانزادي” بولادة حضارة بشرية جديدة في الشرق سيصبح مشروعاً قابلاً للتحقق.