دلالة استهداف المواقع الثقافية
أثار تهديد ترامب باستهداف الولايات المتحدة (52 موقعاً إيرانياً بينها مواقع مهمة للغاية للثقافة الإيرانية، بالهجمات العسكرية) القلق حول العالم، وذلك في مَعرِض تهديده إيران في حال ردها على جريمته باغتيال الشهيد قاسم سليماني.
هذا القلق المثار جرّاء تصريح ترامب حتى من قبل غير قليل من الأمريكيين أنفسهم دفعه إلى التراجع عن تصريحه قائلاً “إنه سيلتزم القانون الدولي فيما يتعلق بتجنّب استهداف المواقع الثقافية”، لكن على الرغم من هذا التراجع فإنه كشف عن نفسه، وعن وحشيته كنسق في استراتيجية الإدارة الأمريكية: نسق ليس طارئاً، فلم ينكشف توحّشه فقط بمجرد اغتيال الشهيد سليماني ومعه كوكبة من الشهداء، بل إن هذا الأمر يندرج في سياق سابق وأساسي في أدبيات الإدارة الأمريكية ولدى رجال استراتيجيتها في الأمن القومي، وبما يجسّد نزوع الانتصارية الليبرالية بثوبها الامبريالي المتوحّش بعد الحرب الباردة.
من منّا لا يعرف أن ترامب ليس مثقّفاً، وليس لديه اهتمام بالآثار وبالحضارة وبالرموز الفكرية والروحية.. هو رجل سوق بكل معنى الكلمة، ولا ينكر ذلك ولا يتضايق منه، فمن أين أتته هذه الانعطافة في التهديدات من الأبعاد الاقتصادية والعسكرية إلى الثقافية؟!.
السؤال مهم جداً، والإجابة عنه واسعة ومتعددة الاتجاهات، نلمح بعض تجلياتها في سعي الغرب الاستعماري إلى المركزية منذ القرن الماضي، وبما يرتبط بتوظيف الاستخبارات الغربية لمراكز الاستشراق، والأبحاث والدراسات أيضاً في خدمة النزوع الاستعماري الذي تطوّر إلى نزوع امبريالي متوحّش، ولعلنا نجد في كتابَي المفكر الفلسطيني إدوار سعيد: (الاستشراق)، و(الثقافة والامبريالية) كثيراً مما نحتاج إليه ونحن نواجه وسائل وأهداف الجيل الرابع من الحروب التي نئن كعرب ومسلمين تحت وطأتها.
كما أن الأمر يندرج أيضاً في تقدّم الطروحات الإباديّة للمحافظين الجدد مع مطلع القرن الحادي والعشرين الذي بدأ متقدماً منذ عام 1990، العام الذي انتهى فيه القرن العشرون جيوسياسياً، ذلك القرن الذي بدأ أيضاً متأخراً حتى عام 1917 مواكباً أحداثاً كبرى في التاريخ الحديث منها: وعد بلفور – سايكس بيكو – نهاية الحرب العالمية الأولى – ثورة أكتوبر. بدأ هذا القرن في سياق طرح “من ليس معنا فهو ضدنا” وبكتابات ممهّدة لمستشارين في مجلس الأمن القومي الأمريكي منها: كتاب (نهاية التاريخ والإنسان الأخير) لفرنسيس فوكوياما، و(صدام الحضارات) لصموئيل هنتنغتون… وتبعتهما اتفاقيتا أوسلو ووادي عربة، ومشروع الشرق الأوسط الجديد الذي ستبنيه الفوضى الخلاقة و(الربيع العربي) على أكتاف رجال داعش والنصرة حَملة التطرف والتكفير والدم والدمار.
أتى هذا جميعه في سياق صياغة تاريخ جديد يسير في قطار الزمن الأمريكي الذي تقوده قاطرة العولمة والشركات العابرة ومتعددة الجنسيات، والتي يجب – أمريكياً – أن تتسابق الشعوب إلى حجز مقعد لها في عرباته.
هذا التاريخ ينطلق من تدمير الهويات الوطنية، ومن محو الخصوصيات القومية، والذاكرة الحضارية، ومن العبث بالوعي والانتماء، ومن تشويه الحياة الروحية بأبعادها الدينية والدنيوية. وأيضاً من إضعاف روح مقاومة الشعوب لهكذا تحديات.
ترامب ليس أهوجَ فحسب، بل هو تقريري ومباشر “واضح” فلا يمكن أن يحمل المخفي من الاستراتيجيات، وعنده يستوي ما تحت الطاولة مع ما فوقها، وهو بإعلانه استهداف المواقع الثقافية يبيّن للعالم أنه يلتقي في هذا في نسق مع وحوش تدمير الذاكرة والحياة الحضارية بأبعادها المادية والروحية، الثقافية والآثاريّة، من أمثال: داعش وهي تطيح بآثار سورية والعراق، والوهابية بتدميرها لأضرحة الصحابة وآل البيت، والصهيونية وهي تعمل على هدم الأقصى.
فهو يتاجر بالهويات، وبالأصالة، وبالروح الحضاريّة كما يتاجر بالفنادق وبحقوق الإنسان والشعوب، فيُستفز حين ينشر الإيرانيون صورة يحتضن فيها الإمام الحسين الشهيد سليماني ويباركه، فيرد بسذاجة وينشر فريقه بالمقابل صورة له يحتضنه فيها السيد المسيح وهو بهذا، وبغيره يكون مع داعش وجهين لعملة واحدة.
إن الإدارة الأمريكية بهكذا جرائم ولاسيما جريمتها الأخيرة التي أوجز الرئيس الأسد القول فيها بتعزية سيادته باستشهاد كوكبة من قادة المقاومة (هذا العمل الإجرامي الذي ارتكبته الإدارة الأمريكية يؤكد مجدداً نهجها المتواصل في دعم الإرهاب، ونشر الفوضى وعدم الاستقرار، ونشر شريعة الغاب خدمة للمشاريع الصهيونية والاستعمار في المنطقة والعالم أجمع) تحرّك شعوب العالم، ولاسيما في الشرق والجنوب للرد. وها نحن نرى تطوّر مبادرات واعدة وناهضة في هذا السياق منها: مجموعة البريكس، ومنظمة شنغهاي للتعاون، والحزام والطريق.
ولعل المهم والملفت في هذا الصدد جولة الرئيس بوتين مؤخراً في دمشق وزيارته الجامع الأموي الكبير، وضريح النبي يحيى، والكاتدرائية المريمية.. هذا جميعه يؤكد ضرورة المقاومة وفاعليتها ثقافة ونهجاً.
د. عبد اللطيف عمران