خزانات الفكر الأمريكية…. Think Tanks
أمجد السعود
كثيرة هي تلك المراكز التي تقوم بالأبحاث والدراسات العلمية التي تخلص بنتائج تستعين بها مراكز القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي وحتى العسكري حول العالم، وقد انتشرت بشكل كبير في الولايات المتحدة الأمريكية إبّان سقوط الاتحاد السوفييتي بعد أن أصبحت الأحادية الأمريكية تشكل القوة الأكثر سيطرة على القرار السياسي والاقتصادي العالمي، أميريكان إنتربرايز – مؤسسة واشنطن للشرق الأدنى – مشروع القرن الأمريكي الجديد – ميديل إيست فوروم – مؤسسة هيرتيج …وغيرها كلها مراكز تضم مجموعة من المفكرين والأكاديميين المتميزين على مستوى الأكاديميات والجامعات العلمية حول العالم، وبدأت السياسة الأمريكية تولي هذه المراكز أهمية كبيرة في رسم سياسات الولايات المتحدة الخارجية وأصبح القائمين على الدراسات والأبحاث في هذه المراكز شركاء في صناعة القرار السياسي والاقتصادي والعسكري للولايات المتحدة وباتت الموجه الذي يرسم خارطة الطريق لتلك السياسات فكل مركز منها له توجهه الخاص يميني – يساري – محافظ – ليبرالي…إلخ جعل منها قوى ذات تأثير فاعل وكبير لتمرير مشاريع ومخططات سياسية وعسكرية كالحرب على العراق وأفغانستان، والحملات الانتخابية لرؤساء أمريكا وقضايا السلام في الشرق الأوسط والاتفاقيات والمعاهدات الدولية…وغيرها.
إذاً نحن أمام خزانات فكرية تضم مفكرين وعلماء على اختلاف توجهاتهم السياسية يتم استقطابهم من كافة أنحاء العالم وتقدّم الامتيازات والحوافز المالية.
هذه الآلية المتبعة في صنع القرار السياسي والاقتصادي والعسكري إنما تشير إلى تحرير القرار من أيدي شخصيات بعينها وربط مسألة اتخاذ القرار بهذه المراكز التي تحدد مدى صواب أو خطاً أي قرار سياسياً كان أم اقتصادياً أم عسكرياً وفقاً لدراسات وأبحاث موجهة لرسم سياسة معينة، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: من القائم على تلك المراكز؟ ومن أي جهات تمول؟ وهل أن هذه المراكز بما تجسده من قيمة علمية وبحثية وفكرية تسهم من خلالها في ضبط السلوك السياسي الأمريكي؟ أم أنها تزيد من الطين بلّة؟
إن الأبحاث وما نودي إليه من نتائج علمية لابدّ من أن تكون في المقام الأول لخدمة البشرية وتنوير الرأي العام بمختلف نواحي القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية واعتماد السياسة الأمريكية على هذه الخزانات الفكرية ((Think Tanks)) إنما كان لامتلاك الشرعية لأيّ قرار سياسي أو عسكري أو اقتصادي تتخذه سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي للولايات المتحدة الأمريكية.
لاشك في أن مثل هذه المراكز تحتاج إلى كتلة مالية ضخمة تمولها لإنجاز مهامها، شكلت الرأسمالية الأمريكية الداعم والممول الأبرز لتلك المراكز للقيام بالدراسات والأبحاث العلمية التي من المفروض أن تكون نتائجها لخدمة الأبحاث العلمية لتطوير المجتمعات، ومن المعلوم بأن الرأسمال لا يمكن أن يكون خلف أيّ قطاع من القطاعات دون أن يخرج بأرباح مالية أو تسهيلات معينة لسلوكه القائم على السيطرة على مصادر المال والطاقة على المستوى العالمي، ويمكن القول بأن الهدف الأول من دعم الرأسمال الأمريكي لهذه المراكز هو شرعنة السلوك الرأسمالي أمام الرأي العام المحلي والعالمي.
إذاً يمكننا أن نقول: بأن عمل تلك المراكز مرتبطة بثلاث جهات لإتمام الدور المناط بها وهي: السياسة والاقتصاد والإعلام بما تجسده من مقوّمات تسهم في تمرير ما تطرحه تلك المراكز من أبحاث ونتائج تنطبق على الواقع العملي وتتحول إلى سلوكيات فعلية سواءً في الداخل الأمريكي أو في السياسة الخارجية الأمريكية.
ومن أبرز المشاريع المطروحة من قبل هذه المراكز هو المشروع الذي طرحه معهد الأبحاث والدراسات (( PNAC)) – الذي يدعم سياسات المحافظين الجدد والذي تم تأسيسه عام (1997م) كمنظمة تعليمية غير ربحية- وهو مشروع القرن الأمريكي الجديد New American Century ومن أبرز الباحثين القائمين على هذا المشروع دونالد رامسفيلد، ريتشارد بيل، كولن باول، جون بولتون، كوندوليزا رايس، وشكلت فيما بعد هذه الأسماء بعينها أبرز العناصر الفاعلة ضمن التشكيلة السياسية لجورج بوش الابن بعد توليه الرئاسة الأمريكية، والذي عمل على تطبيق هذا المشروع بحذافيره والذي كان من أبرز أهدافه إحداث تغيير جذري في الأمم المتحدة لصالح أمريكا وقلب نظام صدام حسين وحماية المصالح الأمريكية في العالم وضمان حماية أمن إسرائيل وبعض الدول العربية “ذوات النظام المعتدل” على حدّ قولهم. وبالفعل تم تنفيذ تلك المقررات النظرية التي خرج بها مفكرو معهد (PNAC) للأبحاث والدراسات على أرض الواقع بعد استلام جورج بوش الابن.
كثيرة هي الأمثلة عن العدد الهائل لتلك المراكز والمعاهد في الولايات المتحدة الأمريكية والتي تجسّد أداة طيّعة بيد الممولين والقائمين عليها بشكل أخرجها من وظيفتها التنويرية وأدخلها ضمن الحسابات الميكيافيلية التبريرية للوصول إلى أهدافها السياسية والاقتصادية مهما كانت الوسيلة.