لا شكّ: الهيمنة في طور الأفول
يبدو أن الغرب السياسي لن يستطيع – رغم مرور الزمن – أن يتخلّص بسهولة من المنعكسات السلبية على الإنسان لإرثه الاستعماري، على الرغم من أن صوت الحق فيه لا يموت، لكننا كشعوب ودول لم نحصد من الرهان على هذا الصوت ما نطمح إليه، أو ما كنّا نتوخّاه نتيجة رفع الغرب السياسي (شعارات) الحرية والديمقراطية، وما يتصل بذلك من المتاجرة بحقوق الإنسان وبالقانون الدولي.
إن شعوب العالم باتت على قناعة راسخة بأن الحريات والديمقراطية لا تكون حقيقيّة إن لم تكن وطنيّة، وإنسانيّة، وتقدميّة أيضاً، في الوقت الذي تدّعي فيه بعض الميديا، ومراكز الأبحاث، الغربيّة أن (إسرائيل) الأنموذج الوحيد للديمقراطيّة في الشرق الأوسط؟!!
والغرب هو مركزيّة لا شك في أن نواتها هي التحالف الصهيوأمريكي، هذا التحالف الذي طالما انهارت أمام ضغوطاته في وقائع عديدة أصوات الحق والحريّة والعدالة في أوروبا، ولعل آخر مثال ساطع على ذلك ما اتضح أمس من الموقف الأوروبي من الاتفاق النووي 5+1 مع إيران، وكذلك من العدوان على مطار التيفور شرق حمص…، كل هذا في سياق الموقف الغربي المستمر من مقاومة المشروع الصهيوني الاستيطاني بشقّيه الإحلالي والإبادي المجسّد لـ (المعنى الأمريكي لنشوء “إسرائيل”).
هذا لا يعني أننا أيضاً كمجتمعات وكدول معصومون عن الخطأ وعن إشكاليات الوعي والهُوية والانتماء، وأننا لا نزال نعاني من أعراض العقلية المتخلّفة وما يتصل بذلك من خلل في إدارة الموارد بأنواعها المعروفة، فلم نحصد، أو نتمكّن من الحفاظ على النتائج الإيجابية الساطعة لحركات التحرّر الوطني التي أنجزتها شعوبنا بنجاح في القرن الماضي. وهذا بالمقابل لا يعني أيضاً أن دخول الامبرياليّة في طورها الوحشي بعد الحرب الباردة لا علاقة له بهذا النكوص، بما في هذا الطور من سياسات الهيمنة ومن مناخ طرح (من ليس معنا فهو ضدّنا) حتى لو كان هؤلاء من العملاء الذين تم دعمهم والرهان عليهم ثم المفاخرة والتبجّح بقتلهم من أسامة بن لادن إلى البغدادي.
فالغرب إذن اليوم، لايزال يجتهد في البحث عن أجيال متجدّدة من الحروب كالرابع والخامس: إضرام حرب الأفكار والمعتقدات والهويات، وحرب الحصار والعقوبات الاقتصادية، إضافة إلى ربطه الاغتيال الاقتصادي بالاغتيال السياسي والعسكري على نحو ما نجد في جريمة الإدارة الأمريكية باغتيال الشهيد قاسم سليماني وكوكبة من رفاقه، في الوقت الذي نجد هذا الغرب يحثّ الخطى لاستمرار تكريس التبعية والعمالة والإذلال لعدد من الأنظمة الحاكمة في المنطقة والعالم. وإلا ما معنى مثلاً أن تبقى الميديا السعودية طيلة أسبوعين من الاغتيال ترفع على شاشتها يومياً عشرات المرات تصريح بومبيو: العالم أكثر أمناً بعد مقتل سليماني !!؟
فلا أحد صادقاً في هذا العالم وشريفاً يستطيع أن ينكر أن الشهيد سليماني ورفاقه مناضلون ضد الهيمنة الأمريكية، والعدوان الصهيوني، وجرائم داعش، وإرهاب الأطراف الثلاثة المدعّم بسياسة البترودولار. فهؤلاء شهداء الإنسانية بحق، وبالحق نفسه لن تذهب دماؤهم الطاهرة دون جدوى أبداً لأنها في طريق حرية الإنسان، وحقوق الشعوب، وفي التصدي لوحشيّة الهيمنة الصهيوأطلسية الرجعية العربية.
هذه الحقائق والوقائع لا تدعو إلى اليأس أبداً، ويخطىء من يظن أنها تمهّد الطريق إلى الاستسلام والتطبيع وصفقة القرن.. إلخ، بل هي تدفع بقوة نحو مشروع ناهض وناجز إلى الصمود والمقاومة، فالأجيال المتتالية من الحروب والهيمنة التي يسلكها الغرب تحثّ شعوب العالم في الجنوب والشرق على التعاون والتكامل وتضافر الجهود كل حسب طاقته إلى أشكال متجدّدة ومتتالية أيضاً من المواجهة للقضاء على سياسات الهيمنة والمركزية والقطبية الأحادية التي تؤكد وحشيتها اليوم أنها مأزومة وتعيش في مأزق.
فلم تعد هذه الشعوب ولا الحكومات تثق بالغرب أو تطمئن إلى سياسته، ولم تعد ترتعد إزاء هذه السياسات لأنها اعتادت عليها مع مرور الزمن، بل إن هذا دفعها إلى تحالفات جديدة على نحو ما نجد في مجموعة البريكس، منظمة شنغهاي للتعاون، ومبادرة الطريق والحزام… إلخ، وإلى الاعتماد على الذات، والتصدي للحصار والعقوبات الاقتصادية، والأهم من ذلك خلق قناعة وجدانية ووطنية بالتصدي لعداء يبدو أنه تاريخي ومستدام يؤسس لنظام عالمي جديد بشقّيه الاقتصادي والاجتماعي.. وإلى خلق ظروف مناسبة لنهوض حركات تحرر وطني عالمي فاعلة على نحو ما شهدنا في خمسينيات القرن الماضي.
من هنا نُمعن النظر، ونرسّخ القناعة بما أكده الرئيس بشار الأسد مرّات عديدة، ولا سيما بقوله في عيد الجيش عام 2010 – من قبل – الحرب على سورية من أن (تكلفة الصمود والمقاومة مهما بلغت، تبقى أقل بكثير من تكلفة الخضوع والاستسلام). ولا شك في أن شركاءنا في هذه القناعة كُثُر وأقوياء أيضاً.
د. عبد اللطيف عمران