أمريكا ترامب.. موت امبراطورية
من المهم أن ندرك أن الشرق الأوسط يتحوّل يوماً بعد يوم إلى منطقة غير آمنة بل ومخيفة، وأن السياسات الأمريكية الغامضة والمترددة والقصيرة النظر هي السبب الرئيسي في كل ذلك. فليس من الواضح على الإطلاق ما الذي تريده أمريكا ترامب، خاصة في مرحلة يتمّ فيها إخضاع وتطويع أهم وأكبر المصالح الاستراتيجية القومية للأمة الأمريكية لخدمة مكاسب عابرة وانتخابية وفردية، وعلى مرأى ومسمع من الجميع، ودون إعارة أدنى اهتمام لمستوجبات القرار الجماعي والمسؤولية المشتركة. والنتيجة، كما تتجسّد اليوم على الأرض، هي ولايات متحدة أمريكية معزولة عن الجميع، وما من أحد يعرف كيف يمكن أن تتصرّف، أو كيف تفكّر، في وقت تضع يديها في أشد الملفات قابلية للانفجار في أية لحظة!!.
تؤكّد الإدارة الأمريكية على وحدة وسلامة الأراضي السورية، ولكنها تسمح لقواتها بإقامة قواعد ونقاط عسكرية ثابتة ومتحرّكة بصفة غير شرعية، تضع النفط السوري تحت “حراستها”، ولكنها ترسل إشارات متضاربة حول احتمالات قيامها بسرقته؛ وتغتال الجنرال سليماني، وتكاد تفجّر حرباً إقليمية شاملة لأسباب غير مفهومة وغير مقنعة، ثم تمرّر رسائل تهدئة من تحت الطاولة، وتقبل دفع ثمن مناسب.. هي ترفض سحب قواتها من العراق، ولكنها لا ترى مانعاً من ذلك، شرط المقايضة على أملاك عقارية، وتتمسّك بالرهان على أردوغان في وقت تشبعه ابتزازاً وإهانات وتهديدات مالية واقتصادية.. أمريكا ترامب، وبكل بساطة، امبراطورية تموت ببطء، وترفض الاعتراف بذلك، وكما كانت أحاديتها القطبية وبالاً على حقوق الشعوب، ومأساة للبشرية، ها هي في طور تخبّطها وانحدارها مشروع كارثة إقليمية وعالمية.
ما يمكن قوله بكل ثقة هو: إن الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط يتحوّل بالتدريج من مجرد عامل ضيّق وإزعاج، وعبء على الأمن والاستقرار الإقليمي يمكن التعايش معه، إلى بند حاضر على جدول أعمال القوى الصاعدة.. قوى محور المقاومة، التي باتت تتحسس مخاطر العربدة الأمريكية، وتخشى انعكاسات الضعف الترامبي المزمن أمام “إسرائيل نتنياهو”، وهوس الرئيس الامريكي بالهروب إلى الأمام من خلال افتعال ومراكمة الأزمات والمشاكل، وهو ما يجعل من الضروري والملح مغادرة واشنطن حالة المناورة، والتردّد بأن تقرر الانسحاب بقرار طوعي وفوري ومن جانب واحد..
الانخراط المباشر في الحرب على سورية على امتداد السنوات التسع الماضية، وما رافقه من جرائم وارتكابات سرية وعلنية، وما انتهى إليه أيضاً من تلطّخ سمعة واشنطن بالدعم والعلاقة التخادمية مع التنظيمات التكفيرية والإرهابية، ومعه سقوط كذبة القيم الأمريكية، وتبدّد وهم القوة المطلقة الأمريكية. لقد حوّل هذا الانخراط الأمريكي المباشر، في الحرب على سورية، الدولة العظمى العالمية إلى دمية مثيرة للشفقة تحرّكها الطموحات والأطماع الساذجة الوهابية والإخوانية، وإلى عجوز متسوّلة تقايض على أي شيء مقابل الشيكات السعودية والقطرية، ولتغرق الكرامة والهيبة الأمريكية فوق ذلك في دوامة داخلية من تبادل الاتهامات، لا تعكس شيئاً بقدر ما تعكس حقيقة أن حشرجات موت الامبراطورية قاسية وعنيفة، وقد تنتهي فجأة، ودون سابق إنذار مباشر، بنوع من السكتة السياسية المدمرة والقاتلة.
للمفارقة.. يغلق الشرق الأوسط، وإن متأخراً، الدائرة التي كانت شقتها الولايات المتحدة الأمريكية بالحروب والعنف والقتل، قبل قرابة العقدين من الزمن، ولكن على طريقته، وبما يحق كنس الوجود الأمريكي من كامل المنطقة الممتدة من أفغانستان إلى غرب آسيا.. ذلك على كل حال قانون تاريخي طالما عايشته الامبراطوريات القديمة التي تسلك طريق انحدارها في ذروة صعودها وشعورها بمطلق الهيمنة.. والقانون نفسه مازال قائماً في مواجهة آخر امبراطورية!.
بسام هاشم