الشارق.. والغارب!
حسن حميد
أحياناً،
وعلى الرغم من كرّ الأيام وترادف التجارب، وتفاعل الثقافات العالمية، والفنون الإنسانية، وكثرة الحوارات، والمناداة بفكرة جميلة هي /التسامح/ وأن العالم أوسع مما يظن، وأرحب من الخيال.. إلا أن فكرة سيئة واحدة تتمثل في التطرف تطيح بكل ما في معنى التسامح من نبل، وهذا الأمر لا يعني حقوق الشعوب، وسيادة الدول، واحترام العادات والتقاليد والأعراف في جميع أحياز الجغرافية العالمية، وإنما يعني الثقافات والفنون وأنماط التعبير المختلفة وأشكالها المتعددة، ورؤاها التي تودّ توسيع أبعاد المخيلة البشرية من أجل أن يتسع العالم أرضاً، ومجالاً، وتفكيراً، أو قل من أجل أن تنبت للعالم ذراعان قادرتان على احتضان الجميع بالمودة كلِّها، والإحساس كلِّه..
وقد أردت من هذا السطر الطويل أن أقول إن منبع الشرور جهة واحدة هي الجهل، ومواليده مواليد ضريرة، ولكن أكثرها عماءً هو التطرف، أي الدوران مثل الخذاريف على الرأس وفي حيّز محدود لا يعرف السعة والإبصار والإحساس أبداً.
ومثل هذا الأمر جليٌّ في الثقافة والفنون، وهو مستهجن وأكثر من غريب وشائه لأن الثقافة والفنون ساحات لديموقراطية المعرفة والفن والفكر، ومع ذلك نجد التطرف لجهة فيغمرها بالمديح والتبجيل، ونرى العداء لجهة أو تيار أو شكل أو مذهب فني فينالها من التقذيع والقدح واللوم ما ينالها!
وهذا واضح تماماً في الشعر، وهو الفن الذي كتبت الشعوب به تواريخها وملاحمها وبطولات أهلها، وبه حفظت أعمالها في جميع مجالات الحياة من الزراعة والأنساب والأحداث إلى كتابة الأحلام والتشوفات، لأن كتّــاب القصيد اختلفوا فيما بينهم حول شكل القصيدة بناءً، وحول مضامينها معنى، وحول قيمها مغنى، وتعصب كل طرف وحرصه على ما آمن به واقتنع، فمن حالفه ووزاه كان صديقه، ومن خالفه وابتعد عنه كان عدوه، مع أن الشعر ثقافة وفن وحياة، ولا تحتمل الثقافة والفن والحياة آثار التطرف لأنها آثار شناءة وآثار نار اشتدت لتلد الرماد، والرماد رماد!
من يكتبون قصيدة البيت تعصبوا لهذا الشكل فما عادت عيونهم ترتاح لشكل جديد تتخذه مادة الشعر قالباً لها، ووصفوا هذه الأشكال الجديدة بأنها خروج على الفن، واتهموا أصحابها بالمخربين والعابثين، لأنهم هدموا هندسة البيت الشعري، والبيت الشعري بيت له حرمته، وكانوا في كل هذا يستندون إلى تقاليد كتابة الشعر العربي الملأى بالجماليات، مثلما يستندون إلى تجارب شعرية عربية كبيرة ذائعة الصيت، ولكن عملهم لا يخلو من تطرف، فهم لم يعوا التطورات التي أصابت أشكال الكتابة الفنية لجميع أجناس الأدب في جميع أنحاء العالم، وأن ما خافوا عليه /نظام البيت/ أو ما يشبهه هنا في بلادنا خاف عليه شعراء كثر في جميع أنحاء العالم، لكن الجميع سلموا بأن التطور الذي أصاب القصيدة من حيث البنية والمحتوى والغنى كان تطوراً لصالح الشعر كفن، لأن الفن لا يعرف المراوحة، الأرواح التي تكتب الفن هي التي تعرف المراوحة، الفنون تتقدم وتتطور بأهلها، وقد كان الشعر العربي ينتظر السيّاب ليطور بنيته، وجاء من بعده شعراء كبار رسخوا فعل الريادة تأصيلاً بشعر نايف جعل أصحاب قصيدة العمود، أعني سادتها، يعترفون بهذه البنية الشكلية المستلة من عالمي المعرفة بالشعر، وإدراك أسراره.
إن التطرف جهة تضاد للاجتماع الشامل، والمعرفة الشاملة، وفكرة التسامح وقبول ما لدى الآخر، بل هو تضاد أليم للحوار الذي مهمته الأولى ليست التفاهم والوصول إلى المشتركات فحسب، وإنما مهمته تخليق الأفكار لتصير إبداعاً.
وليس اليوم فقط، بل دائماً، كان التطرف يطل بقرعته كي يهيمن ويشوّه ويبعد الآخرين، ولكنه، وليس اليوم فقط، كان يندحر لأنه ضد الروح الإنسانية، وضد مفهوم الاجتماع والحوار، وضد تمييز الشارق من الغارب.
Hasanhamid55@yahoo.com