في مواجهة بروكسل.. رهان العصيان
ترجمة وإعداد: إبراهيم أحمد
يذهب مجمل اليسار الأوروبي إلى أن المعاهدات الحالية تمنع سياسة تقدّم اجتماعي. فيما بعد، تختلف الإستراتيجيات. بالنسبة لوزير الاقتصاد اليوناني الأسبق يانيس فاروفاكيس، وحدها حركة عابرة للدول تقدر على تغيير أوروبا.
الاتحاد الأوروبي هو اتحاد اقتصادي وسياسي بين 28 دولة أوروبية، تأسّس عام 1993 بناء على اتفاقية معروفة باسم معاهدة ماستريخت. يتجاوزعدد سكانه الـ 500 مليون إنسان، وكما هو معروف فإن الاتحاد الأوروبي يساهم بنسبة 30% من إجمالي الإنتاج فى العالم (16.8 تريليون دولار أمريكي في 2007). وقد تطور الاتحاد كوحدة اقتصادية من خلال تطبيق قوانين موحدة على كل الدول الأعضاء، القوانين التي تضمن حرية الحركة: للناس، والبضايع، والخدمات ورأس المال، حيث تبنّت معظم دوله العملة الموحدة (اليورو). وله دور موحد في السياسة الخارجية، وله تمثيل في منظمة التجارة العالمية ومجموعة الثماني والأمم المتحدة، وأوجد (معاهدة شنغن). وهنالك 21 دولة من دوله أعضاء في حلف الناتو، والاتحاد الأوروبي ليس دولة خارقة تفرض إرادتها دون هوادة على الدول الأعضاء، وهو ليس كذلك دولة فيدرالية تمتلك سيادة أوروبية. هو في الحقيقة منظمة دولية: تأسـّس وجودها على معاهدات، شأنها في ذلك شأن منظمة حلف شمال الأطلسي، على سبيل المثال. الواقع أن أعضاءها يحتفظون بسيادتهم، ولا يمتثلون لقواعدها، إلا أنهم راضون بها بموجب المصادقة على معاهداتها. عدم الامتثال أمر قانوني، يـُسمّى ذلك خيار الانسحاب وبفضل تلك الآلية، يمكن لدولة أن تقـرّر –بسيادة تامة- أنها تنسحب من جزء من قوانين الاتحاد الأوروبي. يمكنها أن تتفاوض بشأن خيار آخر من أوّل الأمر، وبذلك، حينما أصبحت اتفاقيات “شنغن” جزءاً لا يتجزأ من قوانين الاتحاد الأوروبي وقواعده، وإثر معاهدة أمستردام (1997)، حصلت المملكة المتحدة وإيرلندا على إمكانية عدم تطبيقها. يمكن لأيّ دولة أن تتفاوض كذلك بشأن اتفاقية بعد دخولها حيّز النفاذ، إذ تفاوضت المملكة المتحدة -مثلاً– بشأن خيار الانسحاب من الميثاق الاجتماعي الأوروبي لسنة 1989 (قبل أن توافق عليه بعد سنوات عدة). كما يمكن أن يكون الانسحاب أيضاً بقرار من الدولة العضو دون تفاوض في ذلك. في 2003، نظّمت السويد استفتاءً وطنياً حول اليورو، ولما فازت “لا” بنسبة 56% من الأصوات، أعلمت المفوضية الأوروبية بأنها لن تتبنى تلك العملة، ما يمثل خياراً بالانسحاب دون تفاوض. كان ردّ فعل المفوضية صاعقاً: لقد سجلت ذلك. ويوجد شكل آخر من أشكال عدم الامتثال –أشد فظاظة- ويتمثّل في عدم احترام قاعدة من قواعد الاتحاد الأوروبي، والتعويل على وضع العضو الخاص باعتباره قوّة كبرى للإفلات من كل عقاب. هذا ما تفعله ألمانيا، التي لفرط استخدامها الإغراق الجبائي والاجتماعي أعلنت فائضاً جارياً مهماً جـداً 7.7% من الناتج الداخلي الخام سنة 2014 بدل 6% المسموح بها كان ينبغي –منطقياً– أن تُعاقب على ذلك حسب القانون الأوروبي.
يمكن إلى جانب ذلك تصـوّر إعداد معاهدة أخرى. بعد معاهدة ماستريخت عام 1992، جاءت معاهدات أمستردام (1997)، ونيس (2001) ولشبونة (2007)، وكذلك معاهدة الميزانية (2012). بعبارة أخرى يمكننا القول إن المصادقة على معاهدة جديدة، وهو أمر يفترض أن يكون مستحيلاً، تتمّ كل خمس سنوات كمعدّل. شكل جديد من أشكال البناء الأوروبي، يمكن أن يولد دون صعوبة في كلّ حين، لأن الاتحاد الأوروبي لم يكن يوماً من الأيام محتكراً لأوروبا. منظمات عدة تتعايش وتتجاور، دون أن تتطابق مجالات عملها بالضبط. يمكن أن نذكر، إلى جانب الاتحاد، البنك الأوروبي لإعادة البناء والتنمية، ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، وكما هي الحال بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي ومجلس أوروبا.
مسار تفاوضي مبنيّ على موازين قوى وسياسات تحالفية: لا يقدم البركسيت دليلاً على استحالة التفاوض، لا في حالة خيار كبير بالانسحاب، ولا في حالة المصادقة على معاهدة جديدة بالنسبة إلى كامل أوروبا. بالفعل، لم تحصل أية مفاوضات قبل قرار البريطانيين الذي كان نتيجة استفتاء (52%)، بمغادرة هذه المنظمة الدولية بشكل أحادي. غير أن المعاهدات الحالية، وجميع المعاهدات السابقة، لا يمكن تعديلها إلا بإجماع الدول الأعضاء أو أنها لا تنصّ على إجراءات مراجعة، إلا أنه من الخطأ أن نستخلص من ذلك استحالة إصلاح الاتحاد. تقدم التجربة حجّة على ذلك: بدل استخدام إجراء التعديل بالإجماع، احتالت الدول الأعضاء على تلك الصعوبة بالإكثار من المعاهدات. والاستراتيجية القائمة على عدم الانصياع تعتبر إستراتيجية دبلوماسية، أطرافها سائر حكومات الدول الأعضاء، التي تكون أهمّ المحاورين.
من الممكن أن تكون جميع الحكومات تارة حليفة، وتارة محطّ خصومة. بعبارة أخرى، يكون الانخراط في عملية تفاوض مؤسسة في الوقت نفسه على ميزان القوى، وعلى لعبة تحالفات متطوّرة. لن يكون المتحاورون أصناماً من الملح لا يتكلمون، وتكون النتيجة النهائية ثمرة تفاعلات متبادلة ينبغي لهذه الإستراتيجية أن تتّخذ شكل سيناريو بأدراج كثيرة، حتى تشمل مختلف الحالات المتوقّعة. يبدأ تطبيق ذلك في اليوم الذي تتسلّم فيه قوّة سياسية أوسع تمثيلية تأخذ السلطة عن طريق صناديق الاقتراع. ستقترح الحكومة الجديدة على سائر الدول الأعضاء، أن تصادق على معاهدة تجديد تأسيس الاتحاد الأوروبي، لتعويض المعاهدات الحالية.
يشمل ذلك المقترح التحوّلات البيئية والاجتماعية التي هي ضرورية، يجب أن يكون الانتقال البيئي للمنظومات الاقتصادية والطّاقية قائماً على مخطّط واضح، ليكون إجبارياً. يجب أن تنتقل السياسة الزراعية المشتركة من زراعة إنتاجية إلى زراعة في خدمة الفلاحين، مسؤولة بيئياً، ومؤسسة على نظام المحاصصة. ينبغي تركيز حمائية أوروبية تضامنية، أي اقتراح معاهدات جديدة على القوى الاقتصادية الأخرى تهمّ التجارة العادلة، وتوظيف رسوم على التوريد حسب الظروف الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للإنتاج والتوصيل. يجب إلغاء واجب التقشّف في الميزانية، ووضع التنسيق الجبائي والاجتماعي على السكة، في أعلى هرم الاتحاد بكامله. كما يجب الكفّ عن سياسة الخصخصة القسرية للمرافق العمومية لتحويلها إلى أسواق بيد أوليغارشيات سياسية، وينبغي أن يكون بوسع الدول الأعضاء إعادة تأميم المرافق العمومية التي مسّها ذلك.
لا بد من وضع مهلة لتسديد الديون العمومية، بهدف تقييم حجم “الديون الجائرة”، من خلال عمليات تدقيق مواطنية. يجب كذلك إلغاء استقلالية البنك المركزي الأوروبي إزاء الحكومات، لتصبح أولويات سياسته النقدية هي التشغيل الكامل، والانتقال البيئي، وإعادة شراء ديون الدول الأعضاء.
نهاية، ينبغي إقرار رسوم على العمليات المالية (رسوم “توبين”)، والفصل الصارم بين بنوك الأعمال وبنوك الإيداع، من أجل فرض انضباط النظام المالي. حسب هذه الإجراءات، يصبح بالإمكان إدراجها في معاهدة أوروبية جديدة، باعتبارها غاية ينبغي إدراكها على المدى المتوسّط، أو جعل تفعيلها، على العكس، شرطاً مباشراً للانضمام.
ما من شك في أن مبدأ المفاوضة نفسه يقتضي أنه لا يمكن –بالضرورة– الحصول على كلّ ذلك. لكن مهما يكن من أمر، فالمسألة بيد الشعب الفرنسي في المصادقة أو عدمها على ثمرة المفاوضات، وذلك من خلال تقرير ذلك بواسطة استفتاء. وفي انتظار نتيجة التفاوض، لم ترضخ فرنسا لأي من القواعد والقوانين التي تحول دون تطبيق برنامج حكومة “المستقبل المشترك”. سيكون ذلك –إذن– خيار الانسحاب الأحادي المؤقّت لتصبح بعد ذلك ثلاثة مخارج ممكنة: الأول: تبنّي معاهدة تعيد تأسيس الاتحاد الأوروبي من قِبل الدول الأعضاء. الثاني: وضع اتفاق تتولى من خلاله فرنسا وكل الدول الموافقة على مقترحها الأوّلي اختيار الانسحاب الجماعي. تتخلّص تلك البلدان بذلك من جميع قوانين الاتحاد التي تحول دون تفعيل مشروعها السياسي.
من الواضح أنه لا يمكن اليوم ضبط قائمة تلك البلدان، لأن الأمر يتوقّف على الخيارات التي ستذهب إليها الحكومات في ذلك الوقت. يفضي المخرج الثالث إلى باب مغـلق: تعطيل المفاوضات مع “الشركاءالأوروبيين”، لا بدّ من وضع العبارة بين قوسين، لأن وضع ميزان القوى الحالي على الصعيد الجيو سياسي الداخلي في الاتحاد، يجعل عبارة “الشركاء الأوروبيين” قريبة من الدلالة على حكومة ألمانيا، وهي القوّة الوحيدة القادرة على تعطيل تفاوض مباشر مع فرنسا. ستكون برلين، وليس باريس، هي التي تتحمّل مسؤولية إطلاق الدولاب الذي سيفضي بفرنسا وحلفائها للخروج من المعاهدات لكي تؤسـّس معاً بناء أوروبياً جديداً لإنجاز المشروع السياسي المذكور، مشروع يتمّ توسيعه –إن لزم الأمر– ليشمل بلداناً أوروبية من غير أعضاء الاتحاد الأوروبي، أو جزءاً من بلدان الضفة الجنوبية للمتوسـّط. لكن هذه السيناريوهات الثلاثة لا تحمل الحظوظ نفسها. يعدّ المخرج الأول بعيد الاحتمال بالنظر إلى التوجّه المناهض للبعدين الاجتماعي والبيئي الإيكولوجي لدى جـلّ حكومات الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. لكنه مع ذلك ليس مخرجاً مستحيلاً: يبيّن موقف الجنرال ديغول سنة 1965 (الذي أدى إلى “تفاهم لكسمبورغ”) أن الدولة العضو يمكنها أن تحصل على قواعد وقوانين جديدة بفعل عدم الانصياع (سياسة الكرسي الفارغ)، أما المخرج الثاني فمحتمل جدّاً، لأنه قد ظهرت منذ بدايات الاتحاد الأوروبي ملامح تباعد كبيرة بين المشاريع السياسية، تمّ حلّ بعضها عن طريق الانسحاب.
في الآونة الأخيرة، توصّلت البرتغال دون صعوبة تُذكر إلى تطبيق سياسة اقتصادية واجتماعية مناقضة للتقشّف الذي “يوصي به” الاتحاد. وأما الثالث، فهو بعيد التوقّع جداً، بما أن التسوية المعقولة لاختيار الانسحاب أمر ممكن. من جهة ثانية، يتطلّب الحصول على اتفاق مرْضٍ، في كل تفاوض، “حلاً خارج الطاولة”، ونعني بذلك مخرجاً أحادياً عند تعطّل المفاوضات، كما يتطلب خاصة استعداداً حقيقياً لتفعيله إن لزم الأمر، عدم توقّع مثل هذا السيناريو يعني الإشارة إلى المتحاورين، من أول الأمر، أنه يكفيهم الذهاب إلى التعطيل، حتى لا يكون من خيار وقت ذلك غير الاستسلام.
يمثّل المصير الذي لقيه رئيس الوزراء اليوناني ألكسيس تسيبراس في سنة 2015 تحذيراً في هذا الصدد. على الشاكلة نفسها وبما أن الإصرار على الخروج من المعاهدات الأوروبية يمثل من الناحية المنظومية واقعاً حقيقياً يجب تحمّله من أوّل الأمر باعتباره كذلك، فإن إمكانية الحصول على اختيار واسع للانسحاب تصبح قوية جداً.