مؤتمر برلين.. والحروب المتفرّقة
لم يكن لمؤتمر برلين الدولي حول ليبيا، بنوعية حضوره كما بمفردات مخرجاته، المعلنة والمسكوت عنها، وبحقيقة أن طرفي الحرب المحليين، السراج وحفتر، “لم يكونا جزءاً من المؤتمر”، كما أعلنت المستشارة الألمانية، سوى إعادة التأكيد على حقيقة أساسية يعرفها الجميع، ويتجاهلها البعض، ومفادها أن عالمنا يعيش، ويعتاش، على وقع حروب متفرّقة، صغيرة أو متوسطة الشدّة – تتغذّى، بطبيعة الحال، من الحرب الأمريكية الشاملة على الجميع – هدفها الوحيد منع، أو تأجيل، اندلاع الحرب الكبرى بين الكبار، الذين وصل خلافهم اليوم على تقسيم وتوزيع الحصص من النهب المعمم إلى مرحلة خطرة تتضاءل يوماً إثر آخر إمكانية الخروج منها بالحوار أو بالحروب الوسيطة.
والحال فإن حرب ليبيا اليوم، بغض النظر عن دعاوى أطرافها المحليين وعن صدق نوايا ومقاصد شعبها، مثال ساطع على الحروب المتفرّقة التي لم يحن أوان إنهائها بعد، لذلك لم يكن أمام “مؤتمرها البرليني”، كما غيره من المؤتمرات المخصصة لهذه النوعية من الحروب، سوى الخروج بـ”مقررات” فضفاضة من قبيل “الاتفاق على خطة شاملة خاصة بتسوية الأزمة”، والتعهّد “بعدم تقديم دعم لأي طرف ليبي”، وبالطبع “الدعوة إلى وقف الاحتكام للسلاح بين الأطراف المتنازعة”، وهي بالمجمل جمل إنشائية معتادة في هكذا مقام، والمعتاد أيضاً أن يرمي بها الجميع في سلة المهملات، وهم يخرجون من قاعة الاجتماع، لكن الجملة المفتاح في فهم المغزى من المؤتمر كانت في إجماع الحاضرين على دعوة جميع الأطراف إلى “الامتناع عن الأعمال العدائية ضد المنشآت النفطية”، كما كان عدم قدرتهم، أو عدم رغبتهم، على لمّ شمل الطرفين المتحاربين دليلاً بيّناً على أن الخلاف بينهم على “توزيع عادل وشفاف لعائدات النفط”، كما طالبوا، لم يصل إلى نتيجته المناسبة لهم والسيئة على الشعب الليبي حكماً.
بهذا المعنى يمكن القول: إن المؤتمر أدى مهمته بنجاح!!.. وإن الحرب في ليبيا، وعليها، ستستمر في المدى المنظور، وتلك مفارقة مفهومة في هذا السياق العالمي الحافل بأمثالها، فهي، أي الحرب بحد ذاتها، لم تستنفد مهامها الكاملة بعد، أو لم تؤد الغرضين المطلوبين منها، الأول، كما أسلفنا، أن تكون، كواحدة من حروب عديدة متفرقة، مانعاً للحرب الكبرى، والثاني يخص واشنطن الحاضرة مباشرة أو مداورة لاستخدام كل هذه الحروب كأدوات عنفية في إطار حربها المعتادة على العالم، فيما يسعى قاطن بيتها الأبيض للاستفادة من نيرانها في كسب حربه الخاصة التي يخوض غمارها في واشنطن بين مكاتب الكونغرس، وشاشات وسائل الإعلام، التي ستضعه، مع بدء إجراءات محاكمته، في بؤرة مجهر اهتمام الشعب الأمريكي، ما يعني أن خطته الوحيدة، كما المعتاد، ستكون حرف الأنظار باتجاه الخارج وتحت عناوين متنوّعة بدأت من الخطر الإيراني الداهم!!.. لتمر بليبيا وسواها، ولن تنتهي بخطر الإرهاب وغيره، وهو “حرف” قد يأتي يوماً يضطر فيه، هو أو خليفته، إلى خَطّه – بدواعي متطلبات بقاء الامبراطورية – لا بأقلام الرصاص، بل بالرصاص القاتل في وجه الجميع.
هو إذاً مؤتمر عابر آخر لحرب من حروب متعدّدة متفجّرة شهدت بدورها مؤتمرات مماثلة تعهّد بها المجتمعون بما تعهّدوا به في “مؤتمر برلين” الحالي، ومؤتمرات “أصدقاء سورية”، وأعدائها، كانت مثالاً ساطعاً على نتائجها، التي لم يبق من حروفها، على أرض الواقع، سوى مظاهر غريبة لائتلاف غريب من جيوش نظامية وإرهابيين ومرتزقة عابرين للقارات يستخدمون بصورة علنية “أسلحة وذخيرة نظامية لدول الناتو”، الأمر الذي لا يترك للشعوب والحكومات والحركات الوطنية في هذه الدول المستهدفة سوى أن تحارب على جبهات عدة، منها الجغرافي، ومنها السياسي، ومنها الإعلامي، ومنها الاقتصادي الذي نكتوي، كسوريين، من لهيبه في هذه الأيام الجديبة والعصيبة، والصراع مستمر..
أحمد حسن