مقاربة بين قانوني “تحرير العراق” و”قيصر”
ريا خوري
لم تتوقف الولايات المتحدة يوماً عن استخدام كل وسائل السيطرة والتضييق على كل دولة لا تخضع لها ولا تحقّق مصالحها، وما جرى في كل دول العالم خير دليل على ذلك. كان آخر ما قامت به ضد دولتنا وشعبنا العربي السوري هو توقيع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على قانون (قيصر) الهادف لإنزال عقوبات شديدة ضدنا في سورية، حيث قالت وزارة الخارجية الأمريكية: “إنَّ قانون قيصر يتساوق مع قرار مجلس الأمن الدولي رقم (2254) الصادر بتاريخ 18 كانون الأول عام 2015”. لقد تم اعتبار هذا القانون كجزء مهم من قانون الدفاع الوطني للسنة المالية 2020 حيث تضمن القرار: “أنَّ الجهود الدولية لم تكن كافية لحماية المدنيين”.
المتابع الدقيق لما يتضمنه مشروع القرار يدرك تمام الإدراك أنَّ العقوبات جاءت ضد الشعب العربي السوري من خلال معاقبة الدول والشركات التي تتعامل مع الحكومة السورية، وهذا يعني استهدافاً بشكل غير مباشر لحلفائنا مثل روسيا وإيران، وخاصة في مجال الطيران والاتصالات والنقل والصناعة والطاقة والبنك المركزي والتجارة الدولية وغيرها. هذه العقوبات الظالمة تؤثر بشكل سلبي على المستثمرين الأجانب وتثنيهم عن التعامل مع الحكومة السورية. كل هذه السلبيات تهدف بالنهاية إلى منع سورية من دخول مرحلة إعادة الإعمار، إعمار ما خلّفته الحرب التي استمرت أكثر من ثماني سنوات. لكن هذه الحرب ما زالت مستمرة بطريقة الضغط بالعقوبات الاقتصادية، والدول التي شاركت فيها أكثر من ثمانين دولة لأغراض مختلفة ومتعارضة، مازالت هي نفسها تمارس الحرب الاقتصادية على الدولة السورية، أهمها السيطرة على ثروات ومقدرات البلد لإخضاعها للمشاريع الأمريكية الصهيونية.
إن صدور هذا القانون جاء بعد أن تمكَّن الجيش العربي السوري وحلفاؤه من طرد تنظيم (داعش) والقوى الإرهابية التي عاثت قتلاً وتدميراً وفساداً واحتلت نحو ثلث أراضي سورية، وإلحاق الهزيمة المذلة بها كما حصل في العراق الذي تمّ تطهير أراضيه من الوجود العسكري لتنظيم (داعش)، إضافة إلى المعارك الحاسمة في شمال سورية ضد تلك القوى الإرهابية. وهذا يؤكد حجم التعقيد الذي اعترى الوضع الداخلي، وخاصة تلك الخطة الماكرة التي أُطلق عليها (الملاذ الآمن) وأثارت الكثير من الخلافات الواسعة على الصعيد العالمي والإقليمي بين الولايات المتحدة الأمريكية التي وضعت يدها على منابع النفط بمساعدة تنظيم (داعش) وبعض القوى العسكرية الداخلية، إضافة إلى تركيا التي تطمع عبر تاريخها العثماني باحتلال المنطقة وسرقة ثرواتها بعد حدوث شروخات وتصدعات في العديد من الجبهات، وبالطبع هذه العملية مخالفة للقوانين والتشريعات الدولية.
من يراجع بنية السياسة الأمريكية في العراق يتأكد أنَّ مشروع (قانون قيصر) في سورية هو نسخة كاملة من الطبعة العراقية التي أطلق عليها اسم (قانون تحرير العراق) عام 1988، والذي اعتمد على فكرة (منطقة الملاذ الآمن) في القرار الذي اتخذته الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا عام 1991، وتساوق مع تشديد الحصار على العراق، حيث امتد نحو اثني عشر عاماً تمهيداً للإطاحة بنظام العراق واحتلاله بالكامل، وترك الفوضى العارمة تسري حتى اليوم. ففي قانون ما يُسمّى “تحرير العراق” قامت الولايات المتحدة بفرض نظام المحاصصة الطائفية- الإثنية الذي يقوم على الزبانية السياسية، وتقاسم الغنائم، وهذا أدى بشكلٍ فاضحٍ إلى زيادة حدة السعير الطائفي والتعصب الأعمى الذي أفرز التطرف بأبشع أشكاله، حيث اندلع العنف على نحو لا مثيل له، هذا العنف أخذ يضرب يميناً وشمالاً بشكلٍ عشوائيّ، وتحول إلى إرهاب بشع منفلت من عقاله. وكان لتنظيم (القاعدة) ومن بعده تنظيم (داعش) دور كبير وسلبي في خراب العراق مثلما تلعب (جبهة النصرة) و(هيئة تحرير الشام) وأخواتها وملحقاتها دوراً أساسياً ومحورياً في إذكاء نار النزاع والخلافات الداخلية المدعومة من الخارج ومن القوى التي لا تريد الخير والأمن والأمان لشعبينا في سورية والعراق، مهما حملت من صفات ومسميات وادعاءات.
إنَّ مشروع (قانون قيصر) المتذرع بحماية المدنيين يحمل بين طياته مكراً وخبثاً ومشاريع شريرة، حيث تؤكد التجربة أنَّ المدنيين هم كل السكان، وخاصة الذين كانوا ضحية النزاع المسلح طبقاً لاتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 وملحقاتها. فقد كانت الخدمات والتنمية والرعاية الصحية والتعليم والبيئة ودور البلديات وخدماتها تتعلق بحياة الناس جميعاً هي الضحية، إضافة إلى الشهداء والجرحى والمعوقين والمفقودين، ونحو عشرة ملايين بين لاجئ ونازح، وهم جميعاً ضحايا الحرب الإرهابية على سورية والتدخل الخارجي السافر.
من هنا نقرأ بعين فاحصة مشروع (قانون قيصر) الذي يبحث في إجراءات لا علاقة لها أبداً بحماية المدنيين لاعتبارات إنسانية كما يتذّرعون، بل يبحث في اتخاذ إجراءات ضد الدولة السورية وشعبها وحكومتها، غير متناسين الكثير من المسائل التي تتعلق بحجب الملكية والفوائد المترتبة عليها، ومنع دخول السوريين أو حلفائهم إلى الولايات المتحدة الأمريكية وإنزال أشد العقوبات الجزائية بحق أي شخص أو مؤسسة أو جمعية أو منظمة غير حكومية.
أخيراً يتجلّى الهدف النهائي من هكذا قرار في إلحاق الضرر بالشعب العربي في سورية، كما حدث ذلك في العراق، واتُخذت الكثير من الذرائع لاحتلال العراق تحت ذريعة امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل وعلاقة العراق بالإرهاب الدولي. كان ذلك من اختراع (صقور الحرب) كـرامسفيلد أمير الظلام ووزير الدفاع الأمريكي الذي اعترف على الشاشات بعدم وجود أسلحة الدمار الشامل في العراق، الأمر الذي انكشف بطريقة فضائحية دولية حين اعترف الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش ورئيس الوزراء البريطاني طوني بلير بذلك!.